الصّحابة -رضي الله عنهم- في القرآن وفي التّوارة والإنجيل

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله، والصّلاةُ والسّلامُ على رسولِ اللهِ، أمّا بعدُ:

قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ في سورةِ "الفتْح":

{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)}.

 

قالَ الإمامُ الطّبريُّ -رحمَهُ اللهُ- في تفسيرِهِ*  للآيةِ الكريمة:

"{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}:

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَتُبَّاعُهُ مِنْ (أَصْحَابِهِ) الَّذِينَ هُمْ مَعَهُ عَلَى دِينِهِ،

أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ، غَلِيظَةٌ عَلَيْهِمْ قُلُوبُهُمْ، قَلِيلَةٌ بِهِمْ رَحْمَتُهُمْ.

 

{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}:

رَقِيقَةٌ قُلُوبُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ،

لِينَةٌ أَنْفُسُهُمْ لَهُمْ،

هَيِّنَةٌ عَلَيْهِمْ لَهُمْ.

 

{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}:

تَرَاهُمْ رُكَّعًا -أَحْيَانًا- لِلَّهِ فِي صَلَاتِهِمْ،

سُجَّدًا -أَحْيَانًا-،

 

{يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ}:

يَلْتَمِسُونَ بِرُكُوعِهِمْ وَسُجُودِهِمْ وَشِدَّتِهِمْ عَلَى الْكُفَّارِ وَرَحْمَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ}، وَذَلِكَ رَحْمَتُهُ إِيَّاهُمْ، بِأَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ، فَيُدْخِلَهُمْ جَنَّتَهُ.

{وَرِضْوَانًا}:

وَأَنْ يَرْضَى عَنْهُمْ رَبُّهُمْ.

 

{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}:

عَلَامَتُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ فِي صَلَاتِهِمْ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي (السِّيمَا) الَّذِي عَنَاهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ،

فَقَالَ بَعْضُهُمْ:

ذَلِكَ عَلَامَةٌ يَجْعَلُهَا اللَّهُ فِي وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُعْرَفُونَ بِهَا لِمَا كَانَ مِنْ سُجُودِهِمْ لَهُ فِي الدُّنْيَا.

وَقَالَ آخَرُونَ:

بَلْ ذَلِكَ (سِيمَا الْإِسْلَامِ) وَسَمْتُهُ وَخُشُوعُهُ،

وَعَنَى بِذَلِكَ: أَنَّهُ يُرَى مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا!

 

- {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}:

هَذِهِ الصِّفَةُ الَّتِي وَصَفْتُ لَكُمْ مِنْ صِفَةِ تُبَّاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ مَعَهُ- صِفَتُهُمْ فِي (التَّوْرَاةِ).

 

{وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ}:

وَصِفَتُهُمْ فِي (إِنْجِيلِ عِيسَى) صِفَةُ زَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ؛ وَهُوَ فِرَاخُهُ،

يُقَالُ مِنْهُ: قَدْ أَشْطَأَ الزَّرْعُ: إِذَا فَرَّخَ؛ فَهُوَ يُشْطِئُ إِشْطَاءً،

وَإِنَّمَا مَثَّلَهُمْ بـ(الزَّرْعِ الْمُشْطِئِ)؛ لِأَنَّهُمُ ابْتَدَأُوا فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَهُمْ عَدَدٌ قَلِيلُونَ، 

ثُمَّ جَعَلُوا يَتَزَايَدُونَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ الْجَمَاعَةُ بَعْدَ الْجَمَاعَةِ،

حَتَّى كَثُرَ عَدَدُهُمْ، كَمَا يَحْدُثُ فِي أَصْلِ الزَّرْعِ الْفَرْخُ مِنْهُ، ثُمَّ الْفَرْخُ بَعْدَهُ؛ حَتَّى يَكْثُرَ وَيَنْمِي!

 

{يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}:

يُعْجِبُ هَذَا الزَّرْعُ الَّذِي اسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ فِي تَمَامِهِ وَحُسْنِ نَبَاتِهِ، وَبُلُوغِهِ وَانْتِهَائِهِ الَّذِينَ زَرَعُوهُ...

فَكَذَلِكَ مَثَلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ،

وَاجْتِمَاعِ عَدَدِهِمْ، حَتَّى كَثُرُوا وَنَمَوْا، وَغَلُظَ أَمْرُهُمْ؛ كَهَذَا الزَّرْعِ الَّذِي وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ صِفَتَهُ.

{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَتْرُوكٍ مِنَ الْكَلَامِ؛ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- فَعَلَ ذَلِكَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ؛ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ}: "أَصْحَابُهُ! {مَثَلُهُمْ} يَعْنِي: نَعْتُهُمْ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؛ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ"!" اهـــــ [مع الاختصار].

_ _ _

* تفسير الطّبريّ جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الجزء: 24، ص: 336- 348

تحقيق: مكتب التّبيان على نسخة المخطوط التي اعتمدها الشّيخان أحمد شاكر، ومحمود شاكر وغيرها، 

ط1، دار ابن الجوزيّ، القاهرة.