مناسبةُ خواتيمِ ثلاثِ آياتٍ من سورةِ آلِ عمرانَ

بسم الله الرّحمن الرّحيم...

إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره...

ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا...

من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له...

وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّدًا عبده ورسوله.

أمّا بعد:

فإنّ (الحافظ) لسورة (آل عمران)؛ يمرّ بالآيات الكريمة ـ المتتالية ـ:

{وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (176)

{إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (177)

{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (178)

وقد يتشابه عليه خواتيم تلك الآيات الكريمة؛ ممّا يحفّزه على البحث والسّؤال عن سبب ختم كل آية منها؛ ففي الآية الأولى: (عَظِيمٌ)، والثّانية (أَلِيمٌ)، والثّالثة: (مُهِينٌ)؛ فما المناسبة؟ (1)

فيظفر عند الوصول للإجابة ـ بعون الله ـ بالحسنَيَيْن معًا:

1ـ زيادة علمه بمعرفة تفسير ومناسبة ختام الآية لها.

2ـ تثبيت حفظه ـ بعون الله ـ فلا يستبدل ختام آية؛ بخاتمة آية أخرى.

وقد بحثتُ عن مناسبة ختام تلك الآيات الكريمة؛ فوقفتُ على إجابة بيّنة ـ ممّا ورد في الكتب الّتي اعتنت بعلم المناسبات ـ سأوردها فيما يأتي؛ سائلة الله عزّ وجلّ النّفع والقبول.

بيان المناسبة:

¡ الآية رقم: 176:

"{وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ}: أي يسرعون إسراع من يسابق خصمًا{فِي الْكُفْرِ}

{لَنْ يَضُرُّوا اللهَ}؛ أي: الّذي له جميع العظمة.

ولما نفى ما خيف من أمرهم؛ كان مظنة السؤال عن الحاكم لهم على المسارعة؟ فقيل جوابًا:

{يُرِيدُ اللَّهُ}: أي الذي له الأمر كله

{أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا} أي نصيبًا {فِي الآَخِرَةِ}.

ولما كانت (المسارعة) في ذلك (عظيمة)! خُتمت الآية بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قد عم جميع ذواتهم؛ لأن (المسارعة) دلت على أن: الكفر قد ملأ أبدانهم ونفوسهم وأرواحهم .


¡ الآية رقم: 177:

{إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ}؛ أي: فأخذوه {بِالإِيمَانِ}؛ أي: فتركوه، وأكد نفي الضرر وأبدَه؛ فقال:

{لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ}؛ أي: الذي لا كفؤ له

وختمها بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لما نالوه من (لذّة) العوض في ذلك الشرى؛ كما هي العادة في كل متجدد من الأرباح والفوائد .


¡ الآية رقم: 178:

{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ أي: بالله ورسوله.

{أَنَّمَا نُمْلِي}؛ أي: أن إملاءنا؛ أي: إمهالنا وإطالتنا {لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ}

ولما نفى عنهم الخير بهذا النهي؛ تشوفت النفس إلى ما لهم؛ فقال:

{إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ}؛ أي: استدراجًا

{لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}: وهو جميع ما سبق العلم الأزلي بأنهم يفعلونه، فإذا بلغ النّهاية أوجب الأخذ.

ولما كان الرجوع المسفر عن السلامة مظنة (لعزّهم) في هذه الدار الفانية عند من ظن حسن ذلك الرأي؛ عوضوا عنه (الإهانة) الدائمة فقال سبحانه وتعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}." ا.هـ. (2)

وبنحو ماسبق جاء في تفسير: "البحر المحيط": (3)

"ووصف تعالى عذابه في مقاطع هذه الآيات الثّلاث؛ بـ:

{عظيم}، و{أليم}، و{مهين}

ولكلّ من هذا الصّفات مناسبة تقتضي ختم الآية بها:

أمّا الأولى: فإنّ (المسارعة) في الشّيء والمبادرة في تحصيله، والتّحلّي به يقتضي جلالة ما سُورعَ فيه

وأنّه من النّفاسة والعظم؛ بحيث يُتسابق فيه؛ فخُتمت الآية بـ: (عظم) الثّواب؛ وهو جزاؤهم على (المسارعة في الكفر)

إشعارًا بخساسة ما سابقوا فيه!

وأمّا الثّانية: فإنّه ذكر فيها (اشتراء) الكفر بالإيمان؛ ومن عادة المشتري (الاغتباط بما اشتراه والسّرور به والفرح)؛ فخُتمت الآية بـ: (أليم)(4)؛ لأنّ صفقته خسرت بـ: (ألم العذاب)؛ كما يجده المشتري المغبون في تجارته!

وأمّا الثّالثة: فإنّه ذكر الإملاء؛ وهو (الإمتاع) بالمال والبنين والصّحّة، وكان هذا الإمتاع سببًا للـ: (التّعزّز والتّمتّع والاستطاعة)؛ فخُتمت الآية بـ (إهانة) العذاب لهم، وأنّ ذلك الإملاء المنتج عنه في الدّنيا (التّعزّز والاستطالة) مآله في الآخرة إلى (إهانتهم) بالعذاب الّذي يهين الجبابرة". ا.هـ

هذا والله تعالى أعلم.

وصلّى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وسلّم.

:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::

(1) وهو سؤال وردني من إحدى الأخوات الفاضلات ـ جزاها الله خيرًا ـ ؛ فنشرتُ ما وصلتُ إليه لتعمّ الفائدة؛ إن شاء الله.

(2) "نظم الدّرر في تناسب الآيات والسّور"؛ للإمام البقاعيّ ـ رحمه الله تعالى ـ. بشيء من الاختصار.

(3) للعلاّمة: أبي حيّان الأندلسيّ الغرناطيّ ـ رحمه الله تعالى ـ.

(4) ليست موجودة في النّسخة االمطبوعة؛ لكن أضفتها لأنّ السياق يقتضيها.

""""""""""""""""""""""""""""""""""""

السّبت/16/شوّال/ 1431هـ