لأهل القرآن....مشهد الذّلّ!

بسم الله الرحمن الرحيم:
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله؛ أمّا بعد:
فقد أورد ابن القيّم ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه: "مدارج السالكين"؛ فصلاً سمّاه:
{مشاهد الخلق في المعصية}؛ وقد بلغتْ تلك المشاهد: ثلاثة عشر مشهدًا؛ كما ذكر ـ رحمه الله ـ.
وسأنتقل مباشرة إلى المشهد: الثّاني عشر؛ لما فيه من التّعلّق الشّديد بالله تعالى، والافتقار إليه وحده جلّ وعلا؛ وذلك عبر وصف وتشبيه بليغ بديع! يحمل المسلم على تعلّم أبجديّات معنى الذّلّ لله؛ والافتقار إلى مولاه؛ لعلّه يرتقي إلى منزلة: (العبد) لله العليّ الكبير؛ فيتذوّق حلاوتها؛ الّتي من لم يطعمها؛ كانت حياته مرًّا وعلقمًا!
قال ـ رحمه الله تعالى ـ:
"فصل: فحينئذ يطلع منه على: المشهد الثاني عشر وهو:
مشهد الذل، والانكسار والخضوع والافتقار للرب جل جلاله!
فيشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة: ضرورة تامة وافتقارًا تامًّا إلى ربه ووليه ومن بيده صلاحه وفلاحه وهداه وسعادته.
وهذه الحال التي تحصل لقلبه؛ لا تنال العبارة حقيقتها؛ وإنما تدرك بالحصول؛ فيحصل لقلبه كسرة خاصة؛ لا يشبهها شيء؛ بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل! الذي لا شىء فيه! ولا به! ولا منه! ولا فيه منفعة! ولا يرغب فى مثله! وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من صانعه، وقيّمه! فحينئذ يستكثر فى هذا المشهد ما منَّ ربه إليه من الخير، ويرى أنه لا يستحق قليلاً منه ولا كثيرًا!
فأي خير ناله من الله استكثره على نفسه، وعلم أن:
قدْره دونه...
وأن رحمة ربه هي التي اقتضت ذكره به وسياقته إليه...
واستقل ما من نفسه من الطاعات لربه..
ورآها ـ ولو ساوت طاعات الثقلين ـ من أقل ما ينبغي لربه عليه!
واستكثر قليل معاصيه وذنوبه!
فإن الكسرة التي حصلت لقلبه أوجبت له هذا كله!
فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور!
وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه!
وما أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه!
وذرة من هذا ونفَس منه؛ أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم!
وأحب القلوب إلى الله سبحانه:
قلبٌ قد تمكنت منه هذه الكسرة!
وملكته هذه الذلة!
فهو ناكس الرأس بين يدي ربه!
لا يرفع رأسه إليه حياءً وخجلاً من الله!
قيل لبعض العارفين: أيسجد القلب؟! قال: نعم! يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء!
فهذا سجود القلب!
فقلبٌ لا تباشره هذه الكسرة؛ فهو غير ساجد السجود المراد منه!
إذا سجد القلب لله هذه السجدة العظمى سجدت معه جميع الجوارح!
وعنا الوجه حينئذ للحي القيوم!
وخشع الصوت والجوارح كلها وذل العبد وخضع واستكان!
ووضع خده على عتبة العبودية؛ ناظرًا بقلبه إلى ربه ووليه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم!
فلا يُرى إلا متملقًا لربه؛ خاضعًا له؛ ذليلاً؛ مستعطفًا له؛ يسأله عطفه ورحمته!
فهو يترضى ربه كما يترضى المحب الكامل المحبة محبوبه المالك له؛ الذي لا غنى له عنه ولا بدّ له منه!..
فليس له هم غير استرضائه واستعطافه!
لأنه لا حياة له ولا فلاح؛ إلا في قربه ورضاه عنه ومحبته له؛ يقول:
كيف أُغضب من حياتي في رضاه؟!
وكيف أعدل عمن سعادتي وفلاحي وفوزي في قربه وحبه وذكره؟!
وصاحب هذا المشهد:
يشهد نفسه كرجل كان في كنف أبيه؛ يغذوه بأطيب الطعام والشراب واللباس...
ويربيه أحسن التربية...
ويرقيه على درجات الكمال أتم ترقية...
وهو القيم بمصالحه كلها...
فبعثه أبوه في حاجة له؛ فخرج عليه فى طريقه عدوّ! فأسره وكتفه وشدّه وثاقًا! ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء!...
فسامه سوء العذاب! وعامله بضد ما كان أبوه يعامله به!
فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفينة بعد الفينة!...
فتهيج من قلبه لواعج الحسرات؛ كلما رأى حاله!...
ويتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه!...
فبينا هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب!...
ويريد نحره في آخر الأمر!...
إذ حانت منه التفاتة إلى نحو ديار أبيه...
فرأى أباه منه قريبًا! فسعى إليه! وألقى نفسه عليه! وانطرح بين يديه يستغيث:
يا أبتاه! يا أبتاه! يا أبتاه!...
انظر إلى ولدك وما هو فيه!...
ودموعه تستبق على خديه؛ قد اعتنقه، والتزمه، وعدوه في طلبه حتى وقف على رأسه وهو ملتزم لوالده ممسك به!
فهل تقول:
إن والده يسلمه مع هذه الحال إلى عدوه؟ ويخلي بينه وبينه؟
فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده؟!
ومن الوالدة بولدها؟!
إذا فرّ عبد إليه وهرب من عدوه إليه، وألقى بنفسه طريحًا ببابه؛ يمرغ خدّه في ثرى أعتابه باكيًا بين يديه يقول:
يا ربّ! يا ربّ!
ارحم من لا راحم له سواك!
ولا ناصر له سواك!
ولا مؤوي له سواك!
ولا مغيث له سواك!
مسكينك، وفقيرك، وسائلك، ومؤملك، ومرجيك!
لا ملجأ له ولا منجا له منك إلا إليك!
أنت معاذه، وبك ملاذه!
يا من ألوذ به فيما أؤمله!
ومن أعوذ به مما أحاذره!
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره!
ولا يهيضون عظمًا أنت جابره!".

ـــــــــــــــ
انتهى كلامه ـ رحمه الله ـ في هذا المشهد.
أسأل الله أن ينفع به.

لأهل القرآن... فقراء إلى الله من جميع الوجوه!

"فقراءُ إلى اللهِ من جميعِ الوجوهِ"!... 
بسم الله الرحمن الرحيم...
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله...
أما بعد:
فكم نمرّ على الكلمات القرآنية في الآيات الكريمة؛ مرورًا ينقصه التدبر! ويعتريه الغفلة!
مما يفوّت علينا معاني عظيمة؛ ينعطف معها مسير حياتنا، وتتغير مفاهيمنا؛ وتسلم قلوبنا؛ لو تدبرناها حق التّدبر!
ومن تلكم الكلمات القرآنية: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}! وذلك في قوله ربنا تبارك وتعالى في سورة: (فاطر):
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}
[الآية: 15]
وقد ذكر العلامة السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسيرها ما يجعل المرء يشعر:
بالافتقار إلى ربه وتعالى في كل أمر!
وبالذل بين يديه!
وبالتقصير والتفريط في التوكل عليه وتفويض الأمر إليه!
وبالزهد في الاعتماد عليه!
وبالتالي؛ يشعر بغفلته عن ضرورة تدبر كلام ربه العظيم!
ولنرَ! من منا استحضر المعاني الآتية! وأدرك مدى افتقاره إلى ربه! فسعى إلى تزكية نفسه!
فقد قال العلامة السعديّ ـ رحمه الله ـ:
"يخاطب تعالى جميع الناس، ويخبرهم بحالهم ووصفهم، وأنهم: فقراء إلى اللّه من جميع الوجوه!
ـ فقراء في إيجادهم، فلولا إيجاده إياهم، لم يوجدوا!
ـ فقراء في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح، التي لولا إعداده إياهم [بها]؛ لما استعدوا لأي عمل كان!
ـ فقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق والنعم الظاهرة والباطنة؛ فلولا فضله وإحسانه وتيسيره الأمور، لما حصل [لهم] من الرزق والنعم شيء!
ـ فقراء في صرف النقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد؛ فلولا دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم، وإزالته لعسرهم، لاستمرت عليهم المكاره والشدائد!
ـ فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية، وأجناس التدبير!
ـ فقراء إليه، في تألههم له، وحبهم له، وتعبدهم، وإخلاص العبادة له تعالى؛ فلو لم يوفقهم لذلك؛ لهلكوا، وفسدت أرواحهم، وقلوبهم وأحوالهم!
ـ فقراء إليه، في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم؛ فلولا تعليمه، لم يتعلموا، ولولا توفيقه، لم يصلحوا!
ـ فهم فقراء بالذات إليه! بكل معنى، وبكل اعتبار، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا، ولكن الموفق منهم، الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع له، ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، وأن يعينه على جميع أموره، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا أحرى بالإعانة التامة من ربه وإلهه، الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها!
{وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي: الذي له الغنى التام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق، وذلك لكمال صفاته، وكونها كلها صفات كمال، ونعوت جلال. ومن غناه تعالى: أن أغنى الخلق في الدنيا والآخرة، الحميد في ذاته، وأسمائه؛ لأنها حسنى، وأوصافه، لكونها عليا، وأفعاله لأنها فضل وإحسان وعدل وحكمة ورحمة، وفي أوامره ونواهيه، فهو الحميد على ما فيه، وعلى ما منه، وهو الحميد في غناه [الغني في حمده]."
انتهى كلامه رحمه الله.
نفعني الله ومن قرأه.
اللهم آمين.