التّرهيبُ من تفويتِ صَلاةِ العصْرِ!



التّرهيبُ من تفويتِ صَلاةِ العصْرِ!

بسمِ اللهِ الرَّحمَٰنِ الرّحيم...
منْ بعدِ حمدِهِ تعالىٰ، والصَّلَاةِ والسّلَامِ علىٰ خاتَمِ الأنبياءِ والرِّسالةِ...
عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنْهُ؛ أنَّهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ؛ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ))([1])!
قَالَ أَبُو عَبْد اللهِ:
«{يَتِرَكُمْ}: وَتَرْتُ الرَّجُلَ؛ إِذَا قَتَلْتَ لَهُ قَتِيلًا أَوْ أَخَذْتَ لَهُ مَالًا»!

وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ؛ قَالَ:
كُنَّا مَعَ بُرَيْدَةَ فِي غَزْوَةٍ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ، فَقَالَ:
(بَكِّرُوا بِصَلَاةِ الْعَصْرِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ؛ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ))([2])!

(الفوت) في اللّغة:
- "(فَوَتَ) الْفَاءُ وَالْوَاوُ وَالتَّاءُ: أُصَيْلٌ صَحِيحٌ؛ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ إِدْرَاكِ الشَّيْءِ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ!.."([3])  اهـ‍
- "..فَاتَ الأَمْرُ، والأَصلُ: فَاتَ وقْتُ فِعْله.
ومِنْهُ: فاتَتِ الصَّلاةُ؛ إِذَا خَرَج وَقْتُهَا وَلم تُفْعَل فِيهِ"([4])  اهـ‍
- "فَاتَهُ الأَمْرُ فَوْتًا وفَوَاتًا: ذَهَبَ عَنْهُ!"([5]) اهـ‍
- "فَاتَ يفوتُ فَوْتًا وفَوَاتًا: الشّيءُ: مضىٰ زمنُ حدوثِهِ أو عَمَلِهِ.
ويُقالُ: فاتَتِ الصَّلَاةُ؛ أيْ: مضىٰ وقتِ أدائِها وانتهَىٰ!.."([6]) اهـ‍

في معنىٰ الحديثِ:
- جاءَ في "شرح النّوويّ علىٰ مسلمٍ"([7]):
"قَوْلُهُ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ))
رُوِيَ بِـ:
1- نَصْبِ اللَّامَيْنِ
2- وَرَفْعِهِمَا
وَ(النَّصْبُ)؛ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ عَلَىٰ أَنَّهُ (مَفْعُولٌ ثَانٍ).
 وَمَنْ (رَفَعَ) فَعَلَىٰ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ؛ وَمَعْنَاهُ: انْتُزِعَ مِنْهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ!
وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ (النَّصْبِ) فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ مَعْنَاهُ:
نُقِصَ هُوَ، أَهْلَهُ، وَمَالَهُ وَسُلِبَهُ، فَبَقِيَ بِلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ!!!
فَلْيَحْذَرْ مِنْ تَفْوِيتِهَا؛ كَحَذَرِهِ مِنْ ذَهَابِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ!
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ:
مَعْنَاهُ -عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْفِقْهِ-:
أَنَّهُ كَالَّذِي يُصَابُ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ إِصَابَةً يَطْلُبُ بِهَا (وَتْرًا)؛
وَ(الْوَتْرُ): الْجِنَايَةُ الَّتِي يَطْلُبُ ثَأْرَهَا! فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ غَمَّانِ:
1- غَمُّ الْمُصِيبَةِ!
2- وَغَمُّ مُقَاسَاةِ طَلَبِ الثَّأْرِ!
وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ:
مَعْنَاهُ: يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الِاسْتِرْجَاعِ مَا يَتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ فَقَدَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ! فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ (النَّدَمُ وَالْأَسَفُ)! لِتَفْوِيتِهِ الصَّلَاةَ!
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: فَاتَهُ مِنَ الثَّوَابِ مَا يَلْحَقهُ مِنَ الْأَسَفِ عَلَيْه،ِ كَمَا يَلْحَقُ مَنْ ذَهَبَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ!" اهـ‍

ولوالدي -رحمهُ اللهُ تعالىٰ- هَٰذهِ الفتوىٰ([8])  التي تضمّنتْ مسائلَ لها تعلُّقٌ:
"السّائلُ: لوْ أنَّ إنسانًا -مثلًا- عمرُهُ خمسَةَ عشرَ؛ فصلَّىٰ وصامَ وعمرُهُ عشرونَ عامًا؛ فهَٰذِهِ (الخمسُ سنواتٍ) هلْ يَقضِي ما فاتَهُ فيها منْ صلَواتٍ وصيامٍ؟
الوالدُ: أظنُّ هَٰذا سبقَ الجوابُ آنفًا معَ الجزائريِّ هَٰذا؛ لـمَّا سألَ عنِ (الرَّواتبِ)؛ هلْ تُقضَىٰ؟
فكانَ الجوابُ: (الرّواتبُ) تُعَاملُ معامَلةَ (الفرائضِ)؛ فالفرائضُ التي يُخرِجُهَا (المكلَّفُ) عنْ وقْتِهَا دونَ عُذرِ النّومِ والنّسيانِ؛ هَٰذهِ لَا يُمكنُ قضاؤُهَا!
فالرّسولُ صلَّىٰ اللهُ عليهِ وآلِهِ سلَّمَ؛ كانَ يقولُ:
(مَن نسيَ صلَاةً، أوْ نامَ عنهَا؛ فَلْيُصَلِّهَا حينَ يذكُرُهَا؛ لَا كفَّارَةَ لهَا إلَّا ذَٰلِكَ)([9])  
لوْ فَرَضْنَا أنَّ إنسانًا تذكَّرَ في هَٰذِهِ السّاعةِ أنَّهُ لمْ يُصَلِّ الظُّهرَ -ذهولًا ونسيَانًا-؛ فعليْهِ الْآنَ ساعةَ التَّذَكُّرِ أنْ يُباشِرَ [ويقضِيَ الصّلَاةَ] المنسيَّةَ؛ [فمَنْ] كانَ ناسيًا للصّلَاةِ وتذَكَّرَهَا؛ فعليهِ الْآنَ أنْ يُصَلِّيَهَا؛ فإنْ لَم يفعلْ؛ يُقالُ كما يقولُ بعضُ العامَّةِ: "هَٰذِهِ الصّلَاةُ راحَ وقتُهَا؛ لازالَ مهلٌ؛ فيما بعدُ نُصَلِّيْهَا"!.. أبدًا!
وقتُهَا: -هَٰذِهِ الصّلَاةِ المنسيَّةِ-: وقتُ (التَّذكُّرِ) لهَا، أوْ (الِاستيقاظِ) لهَا؛ فإذَا لمْ يُصَلِّهَا في وقتِ (التَّذَكُّرِ) فرَاحَتْ عليهِ!
وكما نعلَمُ جميعًا؛ كلُّ صلَاةٍ من الصّلواتِ الخمسِ لهَا وقتٌ متَّسَعٌ؛ أضيقُ الأوقاتِ هوَ: صلَاةُ المغربِ؛ معَ ذَٰلِكَ يوجدُ نحوُ ساعةٍ؛ فإذا المصلِّي الْتَهَىٰ عنْ هَٰذهِ الصّلَاةِ في مدَّةِ ساعةٍ من الزّمنِ حتَّىٰ خرجَ وقتُهَا دونَ عُذرٍ شرعيٍّ؛ فحينئِذٍ لَا كفَّارةَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ لمْ يُصلِّهَا في وقتِ (التَّذَكُرِ)!
إذا كانتِ الصّلَاةُ المنسيَّةُ، والتي نامَ عنها حينَ تذكَّرَهَا قالَ عليهِ السَّلَامُ: فهَٰذا وقتُها؛ فإذا لمْ يُصَلِّهَا فلَا كفَّارَةَ لهَا! فمَا بالُكَ بالصَّلَاةِ التي وقتُهَا ساعةٌ من الزَّمانِ؛ وهُوَ لَا يُصلِّيْهَا في هَٰذا الوقتِ؛ فهَٰذا لَا يُمكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ هَٰذهِ الصَّلَاةَ -كما قُلْتُ لكَ أوَّلًا- إلىٰ الأبدِ!
لِأنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- يقولُ:
{إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً}[النساء: 103]
ما معنَىٰ {مَوْقُوتًا}؟
أيْ: مُوَقَّتَ الْأوَّلِ والْآخِرِ!
فلوْ تُرِكَ الْأمْرُ لرغْبَةِ المصلِّيْنَ؛ خاصَّةً الَّذينَ غَلَبَتْ عليهِمْ حبُّ الدّنيا، والِانشغالُ بِهَا، والِانْكِبَابُ علىٰ مفاتِنِهَا؛ تَعَطَّلَتْ هَٰذِهِ الْآيَةَ:
{إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً}! 
 وَلذَٰلكَ؛ فيجبُ علىٰ المسلمِ أنْ يتذكَّرَ (بالغَ إثمِ):
- إضاعةِ الصّلَاةِ!
- وإخراجِهَا عنْ وقْتِها!
كمَا قالَ عليهِ السَّلَامُ: ((مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْر؛ِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ))!
كأنَّهُ احترَقَ بيتُهُ وأهلُهُ!
انظرْ كمِ المصيبةُ! لِأنَّهُ ضيَّعَ صلَاةً واحدةً!
وضحَ لكَ مسألةُ القضاءِ؟
السّائلُ: نعمْ، جزاكَ اللهُ خيرًا.
الوالدُ: لَا يوجدُ قضاءٌ إلَّا بِعُذْرِ النَّومِ أو النِّسيانِ، ثُمَّ هَٰذَا العذرُ حينَ التَّذكُّرِ لَا بدَّ منَ الإِتيانِ بالعبادَةِ؛ فإذا تماهَلَ؛ أيضًا ذهبَ وقْتُهَا!!
السّائلُ: والصّيامُ كذَٰلِكَ؟
الوالدُ: وصيامُ رمضانَ كذَٰلِكَ:{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة : 184]
أمَّا هوَ لَيْسَ بمريضٍ، ولَا هوَ مسافرٌ؛ فيستهِيْنُ بِحُرُماتِ اللهِ! ويأكلُ ويشْرَبُ والنّاسُ صائِمونَ؛ فَهَٰذَا -أيضًا- لَا يستطيعُ القضاءَ".
تمَّتْ فتوىٰ الوالدِ، رحمهُ اللهُ تعالىٰ.

نرجوهُ تباركَ وتعالىٰ أنْ يوفِّقَنَا لأداءِ الصَّلَواتِ في أوقاتِها، وعلىٰ الوجهِ الذي يُرضيهِ عنّا.
وصلَّىٰ اللهُ وسلَّمَ علىٰ نبيِّنا محمّدٍ وعلىٰ آلِهِ وسلَّمَ.
~ ~ ~
كتبتْهُ: حسّانة.
الثّلاثاء: 27/ ربيع الأوّل/ 1435هـ‍


([1]) حديثٌ متّفقٌ عليه. رواهُ البخاريّ في "صحيحه"، كتاب: مواقيت الصّلاة، باب إثم من فاتته العصر، الحديث رقم (552)، ومسلمٌ في كتاب: المساجد ومواضع الصّلاة، باب التّغليظ في تفويت صلاة العصر، رقم [200 - (626)].
([2]) "صحيح البخاريّ"، كتابُ مواقيت الصّلاةِ، باب من ترك العصر، الحديث رقم (520).
([3]) "معجم مقاييس اللّغة"، مادّة: فَوَتَ، (4/ 457)، ط 1399هـ‍، دار الفكر.
([4]) "المصباح المنير في غريب الشّرح الكبير"، مادّة: فوت، (2/ 482)، المكتبة العلميّة، بيروت.
([5]) "تاج العروس من جواهر القاموس"، (5/ 33)، دار الهداية.
([6]) "الهادي إلىٰ لغةِ العرب"، مادّة: فَاتَ، (3/ 451)، ط1، 1412هـ‍، دار لبنان للطّباعة والنّشر.
([7]) (5/ 125- 126)، ط: دار إحياء التّراث العربيّ، بيروت.
([8]) قيَّدْتُها -بتصرّف يسيرٍ جدًّا- من الشّريط رقم (488)، "سلسلة الهدىٰ والنّور"، (د: 32، ثا: 3) تقريبًا، وما كان بين [  ] لِانقطاع الصّوتِ.
([9]) واللّفظ في "صحيح مسلم": ((مَنْ نَسِيَ صَلَاةً، أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا)). يُنظرُ: كتاب المساجد ومواضع الصّلاة، بابُ قضاءِ الصّلاةِ الفائتةِ، واستحبابِ تعجيلِ قضائِها، رقم: [315 - (684)].