لأهل القرآن... اقرؤوا الزّهراوَين!

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم 
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله؛ أما بعد: 

عن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ؛ رضي الله عنه؛ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

((اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ؛
اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ: الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا:
غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ؛ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا!
اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ ،وَلاَ تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ))!.

قَالَ مُعَاوِيَةُ: "بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ السَّحَرَةُ".
[صحيح مسلم/ كتاب: صلاة المسافرين وقصرها/ باب: فضل قراءة القرآن وسورة البقرة/ رقم الحديث: (804)]

 


وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ؛ قَالَ: سَمِعْتُ النَّوَّاسَ بْنَ سَمْعَانَ الْكِلاَبِيَّ؛ يَقُولُ:
سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ يَقُولُ:
((يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ؛ تَقْدُمُهُ سُورَةُ: الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ

وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ!
قَالَ:
كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ، أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ؛ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا))!

[صحيح مسلم/ كتاب: صلاة المسافرين وقصرها/ باب: فضل قراءة القرآن وسورة البقرة/ رقم الحديث: (805)]


منَ الفضائل الواردة في الحديثين الشريفين؛ للسّورتين:
1ـ الزّهْرَاوَيْن!
قالوا: سميتا: (الزهراوين)؛ لنورهما وهدايتهما وعظيم أجرهما!

2ـ ((كَأَنَّهُمَا: غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ))!
قال أهل اللغة: الغمامة والغياية: كل شيء أظلّ الإنسان فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما.
قال العلماء: المراد أن ثوابهما يأتي كغمامتين.

3ـ ((كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ))!

في رواية أخرى: ((كَأَنَّهُمَا حِزْقَان مِنْ طَيْر صَافٍ))؛
الفرقان ـ بكسر الفاء وإسكان الراء ـ،
والحزقان ـ بكسر الحاء المهملة وإسكان الزاي ـ؛ ومعناهما واحد؛ وهما:
قطيعان وجماعتان؛ يقال في الواحد: فِرْق وَحِزْق. وَحَزِيقَة: أي: جماعة .

4ـ ((ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ))!
شَرْق: هو بفتح الراء وإسكانها؛ أي: ضياء ونور!

5ـ ((تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا))!


فيا حفَّاظَ الزهراوين! أأدْركتُمْ نعمة الله عليكم؟! 

أسورتان بهذا الأجر والثّواب والجزاء؟
ويا من لم تحظَ بهما؛ لا أخالك إلا اعتراك النّدم، وأخذك الشوق؛ لتكون من أصحاب هاتين السّورتين...
ولتفوز بذلك الأجر العظيم في الدنيا والآخرة: زهراوان! غمامتان! ظلّة وهداية ونور!
كم نحن بحاجة لمن يحاجّ عنّا يوم القيامة!
فلنسارع ولنسابق!
فالأجر عظيم، والعمل -لمن يسّره الله له- يسير!
نسأل الله من فضله؛ ونرجوه العون على العلم والعمل...اللهمّ آمين.
والحمد لله ربّ العالمين.

ـــــــــــــــ
ملحوظة: شرح معاني الكلمات من كتاب: "شرح النّووي على مسلم"؛ بتصرف يسير جدًّا. 

،السبت/21/شوال/ 1430هـ

لأهل القرآن... تفسير آيات أشكلت من سورة الأعراف

بسم الله، والحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله؛ أمَا بعد:
فهذه إجابة لفضيلة الشيخ: أبي عبد المعزّ فركوس ـ حفظه الله ـ يتضح منها مفهوم: (بسحر عظيم) و: (ثعبان مبين)
أسأل الله تعالى أن ينفع بها.

السؤال:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى صحبه ومن والاه وبعد:
هذه -شيخنا- بعض الفوائد استنبطتها من كتاب الله العزيز ومن سنة الرسول عليه الصلاة والسلام –حين اشتغالي بالخطابة-، ولمّا كان لابد لطالب العلم من عرض آرائه وبحوثه على أهل العلم –لكونهم هداة مهديين لما وهبهم الله عزّ وجل من علم بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم- فيصوّبون الصواب، ويصححون الخطأ.
لذلك فإنّي أعرض عليك -شيخنا- هذه الفوائد الشخصية رجاء تسديدي وتصويبي فيما أخطأت.
قال تعالى واصفًا سحر سحرة فرعون: ﴿وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ.. ﴾ [الأعراف:116]، وقال عن عصا موسى عليه السلام ﴿فَإِذَا هِيَ ثُعْبَان مُّبِينٌ﴾ [الأعراف:107].
قلت: فانظر إلى هذا الأسلوب القرآني البديع، حيث وصف السحر بأنّه عظيم وذلك لأنّه سحر أعين الناس بل عين موسى عليه السلام حتى أوجس في نفسه خيفة وهذا نبي الله وقال عن الناس واسترهبوهم فانظر لهول هذا السحر وعظمته.
ووصف عصا موسى عليه الصلاة والسلام بأنّها ثعبان مبين، والمبين في اللغة يراد به العظيم والواضح الجلي، فهي عظيمة لأنّها أفسدت سحر السحرة العظيم ولا يغلب العظيم إلا عظيم، وهو مع ذلك واضح جلي لا خيالات كما هي خيالات السحرة فهو ليس سحرا بل ثعبان حقيقي فتبين الفرق.
فإن كان صائبًا فوجهونا وإن كان خطأ فصوّبونا، وحفظكم الله لنا.
تلميذكم البار، أبو سليمان كمال سعد سعود.


الجواب:
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فأمّا صفة العظمة اللاصقة بفعل السحرة فهي في أعين الناس على وجه التخييل والتأقيت، ومبناها على السحر المذموم شرعًا، وما بني على فاسد فلا يكتب له الفلاح والاستمرار، ومن اتصف بذلك فالعظمة منتفية عنه ويؤكد ذلك قوله تعالى: ﴿وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيثُ أَتَى﴾ [طه:69]، ومعلوم عند الأصوليين أنّ الفعل في سياق النفي أو في سياق الشرط من صيغ العموم، إذ ينحل عن مصدره وزمانه، والمصدر الكامن في مفهوم الفعل في حكم النكرة فيكرّ إلى النكرة في سياق النفي وهي من صيغ العموم، ولذلك كانت الآية تعم نفي جميع أنواع الفلاح عن الساحر وقرر ذلك على وجه التعميم والشمول لجميع الأمكنة بقوله ﴿حَيْثُ أَتَى﴾، ومن هذا اللفظ فهم أنّ الساحر كافر لانتفاء الخيرية فيه، ذلك لأنّ الفلاح لا ينفى بالكلية نفيا عاما إلاّ عمّن لا خير فيه، ومن انتفى عنه الخير فأنّى تكون له العظمة؟! وإنّما هي عظمة في الشر والفساد، إذ لا يخفى أنّ السحرة يستمدون قوتهم وعزائمهم وخيالاتهم من الشياطين وهي عنوان الفساد والشر، ومهما عظم الشيطان فهو ضعيف بالنظر لحيله ومكايده وشراكه لقوله تعالى:﴿إِنّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفا﴾ [النساء:76]، وما وصف بالضعف لا يكون قويا ولا عظيما، وإذا كان أصل المدد ضعيفاً فمن استمد من الضعيف قوة فلا تنقلب عظمة بالمفهوم الخيري. ولذلك كُشف ضعف السحرة يوم الزينة، وبطلت فتنتهم ﴿فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ﴾ [الأعراف:119] على ما جاءت به الآية.
أمّا عصا موسى فعلم اليقين واقع على أنّه ليس من قبيل السحر والحيل، وأنّ الحق لا مرية فيه، إذ عظمته مستمدة من الحق القوي الباقي، لذلك كانت المعجزة باقية غالبة ودعوته صحيحة ثابتة، هذا والعظمتان على طرفي نقيض وبينهما بون شاسع، ومقابلتهما مقابلة حق لباطل، ولا يخفى على مؤمن أنّ عظمة الحق دامغة لعظمة الباطل الزاهقة مصداقا لقوله تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِق﴾ [الأنبياء:18]، وقوله عزّ وجل: ﴿وَقُلْ جَآءَ الحَق وَزهَقَ البَاطِل إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾ [الإسراء:81]، فإنّ الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء.
والعلم عند الله تعالى؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليمًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر:
الخميس/12/ شوال/1430

لأهل القرآن... في أي ليلة نزل الفرقان؟

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعد:
فعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ:
((أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَم فِي: أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ
وَأُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ؛ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ
وَالْإِنْجِيلُ لِثَلاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ
وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ)).

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
رواه أحمد وغيره، وحسّنه والدي رحمه الله تعالى. انظر: "سلسلة الأحاديث الصّحيحة"؛ رقم الحديث: (1575).

24 رمضان المبارك/ 1430هـ.

لأهل القرآن... قطوف من (الأرجوزة المنبهة)

بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره..
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له...
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله...أما بعد:
فهذه قطوف من: (الأرجوزة المنبهة على أسماء القراء والرواة وأصول القراءات وعقد الديانات بالتجويد والدلالات) للإمام المقرىء الحافظ:
(أبي عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان الداني الأندلسي) ـ رحمه الله تعالى ـ،
وهي أرجوزة جمعت بين: أصول (الدين)، وأصول (القراءة)؛ مع عبارة سلسلة سهلة عذبة، عبر بحر من أسهل البحور!
مما يكتب بماء العين! وتصغي له شغاف القلب!
وإني لأحث نفسي وغيري؛ على اصطياد جواهر متنها!
بل ينبغي لكل طالب علم ـ خاصة علم القراءات ـ أن يعكف على دراستها...
فقد صدق ـ رحمه الله ـ في وصفها في أحد أبياتها؛ لما قال:
ينتفع القاري بها والمقري ...... وكل من درى ومن لا يدري!
فهيا إلى بعض من ثمارها اليانعة.. سائلة الله للإمام رحمة رب العالمين..ولمن قرأها النفع... اللهم آمين. 

قال الإمام أبو عمرو الداني ـ رحمه الله تعالى ـ:
القول فيمن يؤخذ عنه وحق العالم على المتعلم:


واطلب هديت العلم بالوقار
واعقد بأن تطلبه للباري

فإن رغبت العرض للحروف
والضبط للصحيح والمعروف

فاقصد شيوخ العلم والروايه
ومن سما بالفهم والدرايه

ممن روى وقيد الأخبارا
وانتقد الطرق والآثارا

وفهم اللغات والإعرابا
وعلم الخطأ والصوابا

وحفظ الخلاف والحروفا
وميز الواهي والمعروفا

وأدرك الجلي والخفيا
وما أتى عن ناقل مرويا

وشاهد الأكابِر الشيوخا
ودون الناسخ والمنسوخا

وجمع التفسير والأحكاما
ولازم الحذاق والأعلاما

وصحب النساك والأخيارا
وجانب الأرذال والأشرارا

واتبع السنة والجماعه
وقام لله بحسن الطاعه

فذلك العالم والإمام
شكرًا بِه لله لا يقام

 
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
انتهى هذا الفصل. فلله درّه! مَنْ وكمْ منا يستحق ـ بعد ذلك ـ تعليم القرآن الكريم!
الله المستعان!
وإن شاء الله سآتي على أبيات أخرى؛ بعون الله.

لأهل القرآن....مشهد الذّلّ!

بسم الله الرحمن الرحيم:
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله؛ أمّا بعد:
فقد أورد ابن القيّم ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه: "مدارج السالكين"؛ فصلاً سمّاه:
{مشاهد الخلق في المعصية}؛ وقد بلغتْ تلك المشاهد: ثلاثة عشر مشهدًا؛ كما ذكر ـ رحمه الله ـ.
وسأنتقل مباشرة إلى المشهد: الثّاني عشر؛ لما فيه من التّعلّق الشّديد بالله تعالى، والافتقار إليه وحده جلّ وعلا؛ وذلك عبر وصف وتشبيه بليغ بديع! يحمل المسلم على تعلّم أبجديّات معنى الذّلّ لله؛ والافتقار إلى مولاه؛ لعلّه يرتقي إلى منزلة: (العبد) لله العليّ الكبير؛ فيتذوّق حلاوتها؛ الّتي من لم يطعمها؛ كانت حياته مرًّا وعلقمًا!
قال ـ رحمه الله تعالى ـ:
"فصل: فحينئذ يطلع منه على: المشهد الثاني عشر وهو:
مشهد الذل، والانكسار والخضوع والافتقار للرب جل جلاله!
فيشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة: ضرورة تامة وافتقارًا تامًّا إلى ربه ووليه ومن بيده صلاحه وفلاحه وهداه وسعادته.
وهذه الحال التي تحصل لقلبه؛ لا تنال العبارة حقيقتها؛ وإنما تدرك بالحصول؛ فيحصل لقلبه كسرة خاصة؛ لا يشبهها شيء؛ بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل! الذي لا شىء فيه! ولا به! ولا منه! ولا فيه منفعة! ولا يرغب فى مثله! وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من صانعه، وقيّمه! فحينئذ يستكثر فى هذا المشهد ما منَّ ربه إليه من الخير، ويرى أنه لا يستحق قليلاً منه ولا كثيرًا!
فأي خير ناله من الله استكثره على نفسه، وعلم أن:
قدْره دونه...
وأن رحمة ربه هي التي اقتضت ذكره به وسياقته إليه...
واستقل ما من نفسه من الطاعات لربه..
ورآها ـ ولو ساوت طاعات الثقلين ـ من أقل ما ينبغي لربه عليه!
واستكثر قليل معاصيه وذنوبه!
فإن الكسرة التي حصلت لقلبه أوجبت له هذا كله!
فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور!
وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه!
وما أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه!
وذرة من هذا ونفَس منه؛ أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم!
وأحب القلوب إلى الله سبحانه:
قلبٌ قد تمكنت منه هذه الكسرة!
وملكته هذه الذلة!
فهو ناكس الرأس بين يدي ربه!
لا يرفع رأسه إليه حياءً وخجلاً من الله!
قيل لبعض العارفين: أيسجد القلب؟! قال: نعم! يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء!
فهذا سجود القلب!
فقلبٌ لا تباشره هذه الكسرة؛ فهو غير ساجد السجود المراد منه!
إذا سجد القلب لله هذه السجدة العظمى سجدت معه جميع الجوارح!
وعنا الوجه حينئذ للحي القيوم!
وخشع الصوت والجوارح كلها وذل العبد وخضع واستكان!
ووضع خده على عتبة العبودية؛ ناظرًا بقلبه إلى ربه ووليه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم!
فلا يُرى إلا متملقًا لربه؛ خاضعًا له؛ ذليلاً؛ مستعطفًا له؛ يسأله عطفه ورحمته!
فهو يترضى ربه كما يترضى المحب الكامل المحبة محبوبه المالك له؛ الذي لا غنى له عنه ولا بدّ له منه!..
فليس له هم غير استرضائه واستعطافه!
لأنه لا حياة له ولا فلاح؛ إلا في قربه ورضاه عنه ومحبته له؛ يقول:
كيف أُغضب من حياتي في رضاه؟!
وكيف أعدل عمن سعادتي وفلاحي وفوزي في قربه وحبه وذكره؟!
وصاحب هذا المشهد:
يشهد نفسه كرجل كان في كنف أبيه؛ يغذوه بأطيب الطعام والشراب واللباس...
ويربيه أحسن التربية...
ويرقيه على درجات الكمال أتم ترقية...
وهو القيم بمصالحه كلها...
فبعثه أبوه في حاجة له؛ فخرج عليه فى طريقه عدوّ! فأسره وكتفه وشدّه وثاقًا! ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء!...
فسامه سوء العذاب! وعامله بضد ما كان أبوه يعامله به!
فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفينة بعد الفينة!...
فتهيج من قلبه لواعج الحسرات؛ كلما رأى حاله!...
ويتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه!...
فبينا هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب!...
ويريد نحره في آخر الأمر!...
إذ حانت منه التفاتة إلى نحو ديار أبيه...
فرأى أباه منه قريبًا! فسعى إليه! وألقى نفسه عليه! وانطرح بين يديه يستغيث:
يا أبتاه! يا أبتاه! يا أبتاه!...
انظر إلى ولدك وما هو فيه!...
ودموعه تستبق على خديه؛ قد اعتنقه، والتزمه، وعدوه في طلبه حتى وقف على رأسه وهو ملتزم لوالده ممسك به!
فهل تقول:
إن والده يسلمه مع هذه الحال إلى عدوه؟ ويخلي بينه وبينه؟
فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده؟!
ومن الوالدة بولدها؟!
إذا فرّ عبد إليه وهرب من عدوه إليه، وألقى بنفسه طريحًا ببابه؛ يمرغ خدّه في ثرى أعتابه باكيًا بين يديه يقول:
يا ربّ! يا ربّ!
ارحم من لا راحم له سواك!
ولا ناصر له سواك!
ولا مؤوي له سواك!
ولا مغيث له سواك!
مسكينك، وفقيرك، وسائلك، ومؤملك، ومرجيك!
لا ملجأ له ولا منجا له منك إلا إليك!
أنت معاذه، وبك ملاذه!
يا من ألوذ به فيما أؤمله!
ومن أعوذ به مما أحاذره!
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره!
ولا يهيضون عظمًا أنت جابره!".

ـــــــــــــــ
انتهى كلامه ـ رحمه الله ـ في هذا المشهد.
أسأل الله أن ينفع به.

لأهل القرآن... فقراء إلى الله من جميع الوجوه!

"فقراءُ إلى اللهِ من جميعِ الوجوهِ"!... 
بسم الله الرحمن الرحيم...
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله...
أما بعد:
فكم نمرّ على الكلمات القرآنية في الآيات الكريمة؛ مرورًا ينقصه التدبر! ويعتريه الغفلة!
مما يفوّت علينا معاني عظيمة؛ ينعطف معها مسير حياتنا، وتتغير مفاهيمنا؛ وتسلم قلوبنا؛ لو تدبرناها حق التّدبر!
ومن تلكم الكلمات القرآنية: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}! وذلك في قوله ربنا تبارك وتعالى في سورة: (فاطر):
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}
[الآية: 15]
وقد ذكر العلامة السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسيرها ما يجعل المرء يشعر:
بالافتقار إلى ربه وتعالى في كل أمر!
وبالذل بين يديه!
وبالتقصير والتفريط في التوكل عليه وتفويض الأمر إليه!
وبالزهد في الاعتماد عليه!
وبالتالي؛ يشعر بغفلته عن ضرورة تدبر كلام ربه العظيم!
ولنرَ! من منا استحضر المعاني الآتية! وأدرك مدى افتقاره إلى ربه! فسعى إلى تزكية نفسه!
فقد قال العلامة السعديّ ـ رحمه الله ـ:
"يخاطب تعالى جميع الناس، ويخبرهم بحالهم ووصفهم، وأنهم: فقراء إلى اللّه من جميع الوجوه!
ـ فقراء في إيجادهم، فلولا إيجاده إياهم، لم يوجدوا!
ـ فقراء في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح، التي لولا إعداده إياهم [بها]؛ لما استعدوا لأي عمل كان!
ـ فقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق والنعم الظاهرة والباطنة؛ فلولا فضله وإحسانه وتيسيره الأمور، لما حصل [لهم] من الرزق والنعم شيء!
ـ فقراء في صرف النقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد؛ فلولا دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم، وإزالته لعسرهم، لاستمرت عليهم المكاره والشدائد!
ـ فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية، وأجناس التدبير!
ـ فقراء إليه، في تألههم له، وحبهم له، وتعبدهم، وإخلاص العبادة له تعالى؛ فلو لم يوفقهم لذلك؛ لهلكوا، وفسدت أرواحهم، وقلوبهم وأحوالهم!
ـ فقراء إليه، في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم؛ فلولا تعليمه، لم يتعلموا، ولولا توفيقه، لم يصلحوا!
ـ فهم فقراء بالذات إليه! بكل معنى، وبكل اعتبار، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا، ولكن الموفق منهم، الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع له، ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، وأن يعينه على جميع أموره، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا أحرى بالإعانة التامة من ربه وإلهه، الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها!
{وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي: الذي له الغنى التام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق، وذلك لكمال صفاته، وكونها كلها صفات كمال، ونعوت جلال. ومن غناه تعالى: أن أغنى الخلق في الدنيا والآخرة، الحميد في ذاته، وأسمائه؛ لأنها حسنى، وأوصافه، لكونها عليا، وأفعاله لأنها فضل وإحسان وعدل وحكمة ورحمة، وفي أوامره ونواهيه، فهو الحميد على ما فيه، وعلى ما منه، وهو الحميد في غناه [الغني في حمده]."
انتهى كلامه رحمه الله.
نفعني الله ومن قرأه.
اللهم آمين.

لأهل القرآن...ما صحة نسبة مقولة: "لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة؛ لكفتهم"! للشافعي رحمه الله؟

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:
فكثيرًا ما نقرأ ونسمع عن مقولة تنسب إلى الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ، تتعلق بسورة: (العصر)؛ وطالما كنت أبحث عن مدى صحة نسبتها إليه؛ وبحمد الله؛ وجدت بغيتي في ثنايا الشرح المختصر الممتع للوالد العلامة الجابري ـ حفظه الله ـ: (إتحاف العقول بشرح الثلاثة الأصول) (1).
فأورد هنا تلك المقولة، وتعليق العلامة الجابري عليها، ومن ثم طرفًا مما أورده ـ حفظه الله ـ عن تلك السورة الكريمة؛ سائلة الله تبارك وتعالى النفع والقبول.

قال العلامة الجابري ـ حفظه الله تعالى ـ:"قال المصنف رحمه الله (2):
قال الشافعي رحمه الله تعالى:
"لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة؛ لكفتهم"!
[ الشرح] (3):
هذا القول؛ بعض مشايخنا يرى أن في نسبته إلى الشافعي نظرًا، ولم أقفْ عليه في كتاب من كتب الشافعي؛ مع أن البحث قليل، وحجة الله قامت على الخلق بغير هذه السورة!
و على فرض صحة هذا القول عن الشافعي رحمه الله؛ فإن هذه السورة على قصر لفظها؛ فقد اشتملت على المعاني الواسعة.
ومن تلكم المعاني:ـ ما تضمنته من حسن العاقبة لأهل الإيمان.
ـ والتحذير من سوء العاقبة لغيرهم.
ـ كما أن فيها: التنويه بـ: الدُّعَاةِ إلى الله على بصيرة، وأنهم متميزون عن غيرهم؛ وذلكم أنهم يتواصون بالحق، ويتواصون بالصبر، وليس عندهم شطط كالفرق الضالة!
سماتهم:ـ الرفق في موضعه.
ـ والقوة في موضعها.
فهم يتميزون بالدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وهذا واضح في سيرة الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من أئمة الهدى".
انتهى كلامه حفظه الله تعالى، وجزاه عن المسلمين خيرًا.
ـــــــــــــــــــــ
(1): دار المدينة النبوية/ الطبعة الأولى/1426هـ.
(2): وهو: الإمام المجدد: محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله تعالى ـ المصنف لمتن: (الثلاثة الأصول)
(3): للعلامة الجابري ـ حفظه الله تعالى ـ.

لأهل القرآن... هل يُحفظ القرآن الكريم، وإن لم تفهم معانيه!

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فهذا سؤال وُجِّهَ للشيخ العلامة: محمد أمان بن علي الجامي ـ رحمه الله تعالى ـ فأجاب عليه ـ بفضل الله ـ بعزيمة وبصيرة أهل العلم!
أطرحه هنا، سائلة الله تعالى أن ينفع به.
ـــــــــــــ

السؤال: 23: بم تنصح شبابنا الذين حفظوا القرآن، ثم تهاونوا فيه؟
الجواب:
لعل سبب التهاون ما سأله بعض شباب جدة وأنا في المدينة؛ لأن بعضهم يقولون لهم:
"""لا فائدة في حفظ القران إذا كنتم لا تفهمون المعاني"""!
هذا خطأ! عليك أن تحفظ كتاب الله فهمتَ أو لم تفهم!
قراءة القرآن عبادة من أفضل العبادات؛ بل أفضل العبادات على الإطلاق!
ولو كنتَ لا تفهم المعاني، فبالحرف الواحد عشر حسنات!
يقول النبي عليه الصلاة والسلام:
((لا أقولُ: الم حرف؛ بل: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) (1)
هذه الحروف المقطعة التي في أوائل بعض السور ـ والله أعلم بمراده بها ـ لا نعلم معناها؛ مع ذلك نثاب على تلاوتها!
تثبيطُ الشباب عن حفظ القرآن، والحيلولة دونهم بدعوى أنهم لا يفهمون المعاني؛ فهذه دعاية سيئة! لا ينبغي أن تُقْبَلَ!
فاحفظ القرآن!
وما نسيت راجع واضبط..
وخُذ بعض المصاحف التي في الهامش تفسير لبعض الكلمات والمفردات، أو كتيب صغير: "كلمات القرآن"
واسأل أهل العلم..
واستعن بالله!".
(2)
انتهى كلامه رحمه الله تعالى، ونفع بعلمه.
ـــــــــــــــــــ
(1): إشارة لما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:
((مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؛ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ: الم حَرْفٌ؛ وَلَكِنْ: أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ))!.
[أخرجه البخاري في:"التاريخ"، والترمذي، بإسناد واحد. انظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة؛ رقم الحديث: (3327)، والتعليق تحت الحديث رقم:
(660)].
(2): المرجع: [28سؤالاً في الدعوة السلفية]؛ المكتبة الشاملة.
لأهل القرآن....
كيف فسر السعدي ـ رحمه الله ـ قوله تعالى:
{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} (224) {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} (225) {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} (226)
{إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (227).
[سورة الشعراء].

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين؛ أما بعد:
أما الآيات الكريمات! كلام رب البريات؛ فقد أنزلت إلينا هدًى ورحمة وتبيانًا وفرقانًا!
وأما شرحها؛ فمما فتح الله به على العلامة: ابن السعدي ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسيره لتلك الآيات الكريمة؛ في كتابه القيم: "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"؛ فلنتأمل الآتي كلمة كلمة! سائلة الله الكريم النفع والقبول.

قال ـ رحمه الله تعالى ـ:
"فلما نزهه عن نزول الشياطين عليه، برَّأه أيضًا من الشعر؛ فقال:
{وَالشُّعَرَاءُ} أي: هل أنبئكم أيضًا عن حالة الشعراء، ووصفهم الثابت، فإنهم:
{يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} عن طريق الهدى، المقبلون على طريق الغي والردى، فهم في أنفسهم غاوون، وتجد أتباعهم كل غاوٍ ضالٍّ فاسدٍ!
{أَلَمْ تَرَ} غوايتهم وشدة ضلالهم؛
{أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ} من أودية الشعر،
{ يَهِيمُونَ }:
فتارة في مدح، وتارة في قدح!
وتارة في صدق، وتارة في كذب!
وتارة يتغزلون، وأخرى يسخرون!
ومرة يمرحون، وآونة يحزنون!
فلا يستقر لهم قرار، ولا يثبتون على حال من الأحوال!
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} أي: هذا وصف الشعراء، أنهم تخالف أقوالهم أفعالهم:
فإذا سمعت الشاعر يتغزل بالغزل الرقيق، قلت: هذا أشد الناس غرامًا، وقلبه فارغ من ذاك!
وإذا سمعته يمدح أو يذم، قلت: هذا صدق، وهو كذب!
وتارة يتمدح بأفعال لم يفعلها، وتروكٍ لم يتركها!
وكرم لم يحم حول ساحته!
وشجاعة يعلو بها على الفرسان، وتراه أجبن من كل جبان!
هذا وصفهم!
فانظر! هل يطابق حالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، الراشد البار، الذي يتبعه كل راشد ومهتد، الذي قد استقام على الهدى، وجانب الردى، ولم تتناقض أفعاله ولم تخالف أقواله أفعاله؟ الذي لا يأمر إلا بالخير، ولا ينهى إلا عن الشر، ولا أخبر بشيء إلا صدق، ولا أمر بشيء إلا كان أول الفاعلين له، ولا نهى عن شيء إلا كان أول التاركين له!
فهل تناسب حاله، حالة الشعراء، أو يقاربهم؟! أم هو مخالف لهم من جميع الوجوه؟!
فصلوات الله وسلامه على هذا الرسول الأكمل، والهمام الأفضل، أبد الآبدين، ودهر الداهرين، الذي ليس بشاعر، ولا ساحر، ولا مجنون، ولا يليق به إلا كل كمال.
ولما وصف الشعراء بما وصفهم به، استثنى منهم من آمن بالله ورسوله، وعمل صالحًا، وأكثر من ذكر الله، وانتصر من أعدائه المشركين من بعد ما ظلموهم.
فصار شعرهم من أعمالهم الصالحة! وآثار إيمانهم! لاشتماله على:
مدح أهل الإيمان!
والانتصار من أهل الشرك والكفر!
والذب عن دين الله!
وتبيين العلوم النافعة!
والحث على الأخلاق الفاضلة؛ فقال:
{ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ }: ينقلبون إلى موقف وحساب، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، إلا أحصاها! ولا حقًّا إلا استوفاه! والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــ
انتهى كلامه؛ رحمه الله ونفع بعلمه.

هل عورة المرأة على المرأة؛ من السرة إلى الركبة؟

بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله... نحمده، ونستعينه، ونستغفره...
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا...
من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له...
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله..
أما بعد:
فهذه السطور الآتية؛ جواب على سؤال كنتُ سألتُه لوالدي قبل سنة من وفاته تقريبًا ـ رحمه الله تعالى ورزقه الفردوس الأعلى ـ.
وقد كان سؤالي عن: "عورة المرأة على المرأة"؛ لأن كثيرًا من النساء المسلمات ـ إلا من رحم الله ـ ما إن تُنبه على أي مخالفة شرعية في ثيابها (الضيق منها أو الصفيق أو المكشوف) ـ أمام النساء ـ؛ تُسارع إلى مؤازرة فعلها بالمقولة المشهورة: [عورة المرأة على المرأة: من السرة إلى الركبة]!
فها هنا جوابه ـ رحمه الله تعالى ـ؛ بالنص:

"الأصل في عورة المرأة: القرآن والسُّنّة!
= أما القرآن:
فقوله تعالى:
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1)
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ}...الآية. (2)
= أما السًّنّة:
فقوله عليه الصلاة والسلام:
((المرأةً عورةٌ؛ فإذا خرجت استشرفَهَا الشيطانُ))!
وعموم الآية والحديث؛ يدلاّن على أن: المرأة كلها عورة؛ إلا أنه:
استُثني بالنّسبة للمحارم: مَنْ ذُكِروا في الآية؛ وهي الّتي تُسمّى بـ: (العورة الباطنة)،
واستُثني بالنّسبة للأجانب: ما ظهر من زينة المرأة؛ وهو: الوجه والكفّان؛ كما ثبت في الأحاديث والآثار، وتفصيل هذا الإجمال؛ في كتابي: "جلباب المرأة المسلمة".
وأمّا القول بأنّ: [عورة المرأة على المرأة؛ كعورة الرّجل مع الرّجل]؛ فهو وإن قال به بعض العلماء؛ فلا أصل له إطلاقًا في شيء من الأحاديث والآثار السّلفيّة! بل هو مخالف لما تقدّم من الكتاب والسُّنّة!
فإنّ الله عزّ وجلّ ـ في الآية الأولى ـ؛ قال:
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}؛ قال المفسّرون: أي: مواضع الزّينة.
وكلّ ذي عقل ولبّ! يعلم أن الإبط، والخاصرة، وما فوق البطن، وما خلفه من الظهر؛ كل ذلك ليس من الزّينة!
أي: من المواضع الّتي توضع فيها الزّينة؛ فهذا ممّا لم يُسمحْ به أن تُظهره لمحارمها؛ وتأيّد هذا بعموم الحديث المذكور أعلاه: ((المرأةُ عورةٌ...))؛ مع ملاحظة الاستثناء السّابق ذكره.
فهذا الحقُّ ما به خَفَاءُ......فدَعْنِي عن بُنيّات الطَّريقِ!"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
انتهى جوابه رحمه الله، وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.
(1) و(2): [سورة النور:31]