"فَمنْ عرَضَ (أَقْوَالَ الْعلمَاءِ) على (النُّصُوصِ)، ووزنَهَا بهَا، وَخَالفَ مِنْهَا مَا خَالفَ (النَّصَّ)؛ لم يهْدِرْ أَقْوَالهمْ، وَلم يهضِمْ جانبَهُمْ؛ بلِ اقْتدَى بهمْ!"للعلاّمةِ: شمسِ الدّين ابنِ قيِّمِ الجَوزيَّةِ

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

"فَمنْ عرَضَ (أَقْوَالَ الْعلمَاءِ) على (النُّصُوصِ)، ووزنَهَا بهَا، وَخَالفَ مِنْهَا مَا خَالفَ (النَّصَّ)؛ لم يهْدِرْ أَقْوَالهمْ، وَلم يهضِمْ جانبَهُمْ؛ بلِ اقْتدَى بهمْ!"
للعلاّمةِ: شمسِ الدّين ابنِ قيِّمِ الجَوزيَّةِ
-رحمهُ اللهُ-


"فَصْلٌ:
وَالْفرق بَين (تَجْرِيد مُتَابعَة الْمَعْصُوم) و(إهْدَارِ أَقْوَال الْعلمَاء وإلغَائِهَا) أَنَّ:
تَجْرِيد الْمُتَابَعَةِ أَن لَا تُقَدِّمُ على مَا جَاءَ بِهِ قَولَ أحدٍ، وَلَا رَأْيه؛ كَائِنًا من كَانَ!
بلْ تَنْظرُ فِي صِحَّةِ الحَدِيثِ أَوَّلًا؛ فَإِذا صَحَّ لَكَ؛ نظرْتَ فِي مَعْنَاهُ ثَانِيًا
فَإِذَا تبيَّن لَكَ؛ لم تعْدِلْ عَنهُ وَلَو خالفَكَ مَنْ بَين الْمشرقِ الْمغربِ!
ومعاذَ اللهِ! أَنْ تتَّفِقَ الْأمَّةُ على مُخَالفَةِ مَا جَاءَ بِهِ نبيُّهَا!
بلْ لَا بُدَّ أَن يكونَ فِي الْأمة من قَالَ بِهِ وَلَو لم تعلمْهُ
فَلَا تجْعَلْ (جَهْلَكَ بالقائلِ بِهِ) حجَّةً على اللهِ وَرَسُولهِ
بل اذْهبْ إِلَى النَّصِّ، وَلَا تضعف!
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قدْ قَالَ بِهِ قَائِلٌ قطْعًا، وَلَكِنْ لم يصِلْ إِلَيْكَ، هَذَا مَعَ:
حفظِ (مَرَاتِب الْعلمَاءِ)، ومُوالاتهمِ، واعتقادِ حرمتِهِمْ، وأمانتِهِمْ، واجتهادِهِمْ فِي (حفظِ الدّينِ)، وَ(ضَبطهِ)!
فهمْ دائرونَ بَين (الْأجْرِ والأجرينِ) وَ(الْمَغْفِرَةِ)
وَلَكِنْ لَا يُوجبُ هَذَا إهدارَ النُّصُوصِ، وَتَقْدِيمِ قَولِ الْوَاحِد مِنْهُم عَلَيْهَا بِشُبْهَةِ أنَّهُ أعْلَمُ بهَا مِنْكَ!
فَإِن كَانَ كَذَلِك؛ فَمن ذهبَ إِلَى النَّصِّ أعْلَمُ بِهِ مِنْكَ؛ فَهَلَّا وافقْتَهُ إِنْ كنتَ صَادِقًا؟! فَمنْ عرَضَ (أَقْوَالَ الْعلمَاءِ) على (النُّصُوصِ)، ووزنَهَا بهَا، وَخَالفَ مِنْهَا مَا خَالفَ (النَّصَّ)؛ لم يهْدِرْ أَقْوَالهمْ، وَلم يهضِمْ جانبَهُمْ؛ بلِ اقْتدَى بهمْ!
فَإِنَّهُمْ -كلَّهُمْ- أمَرُوا بذلكَ!
فمتِّبِعُهُمْ -حَقًّا- منِ امتثلَ مَا أوصَوا بِهِ؛ لَا مَنْ خالفَهُمْ!
فخلافُهُمْ فِي القَوْلِ الَّذِي جَاءَ النَّصُّ بِخِلَافِهِ؛ أسهلُ من مخالفتِهِمْ فِي الْقَاعِدَة الْكُلِّيِّةِ الَّتِي أمَرُوا، ودَعَوْا إِلَيْهَا؛ من (تَقْدِيم النَّصِّ) على (أَقْوَالهم)!
وَمن هُنَا؛ يتَبَيَّنُ الْفرْقُ بَين (تَقْلِيدِ الْعَالمِ فِي كلِّ مَا قَالَ)، وَبَين (الِاسْتِعَانَة بفَهْمِهِ والاستضاءةِ بِنور علْمِهِ)!
فَالْأوَّلُ: يَأْخُذُ قَوْلهُ من غيرِ نظرٍ فِيهِ، وَلَا طلبٍ لدليلِهِ من (الْكتابِ وَالسّنةِ)! بل يَجْعَلُ ذَلِكَ كالحبْلِ الَّذِي يُلقِيهِ فِي عُنُقهِ، يُقَلِّدُهُ بِهِ؛ وَلذَلِكَ سُمِّيَ (تقليدًا)
بِخِلَافِ (مَا اسْتَعَانَ بفَهْمِهِ والاستضاءةِ بِنور علْمِهِ) فِي الْوُصُولِ إِلَى الرَّسُولِ صلوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ يجعلُهُمْ بِمَنْزِلَةِ (الدَّلِيل إِلَى الدَّلِيلِ الأوَّلِ)!
فَإِذا وصلَ إِلَيْهِ؛ اسْتغْنى بدلالتِهِ عَن الِاسْتِدْلَال بِغَيْرِهِ!
فَمن اسْتدلَّ بِالنَّجْمِ على الْقبْلَة؛ فَإِنَّهُ إِذا شَاهدهَا لم يبْقَ لاستدلالِهِ بِالنَّجْمِ معنًى!
قَالَ الشَّافِعِيُّ: "أجْمَعَ النَّاسُ على أَنَّ منِ اسْتَباَنتْ لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ؛ لم يكنْ لَهُ أَنْ يَدعهَا لقَوْلِ أحدٍ"!اهـ‍
من كتاب "الرّوح"، (ص: 263-264).
~ ~ ~
الأربعاء: 21/جمادى الآخرة/1434هـ‍.

لِيَتَّخِذْ أَحَدُكُمْ هَذَا الصَّاحِبَ!


لِيَتَّخِذْ أَحَدُكُمْ هَذَا (الصَّاحِبَ)!

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ...
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاةُ والسّلامُ على خاتَمِ الأنبياءِ والمرسلينَ، أمَّا بعدُ:
ففي أيّامٍ كَثرُ فيهَا القيلُ والقالُ!
ولم يعدْ يُمْلَكُ فيهَا البنانُ، ولاَ اللّسانُ! -إلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ-!
ما أحوجنَا إلى هذا (الصّاحبِ)! الَّذي يجدرُ بنا أن ننعمَ بصحبتِهِ آناءَ اللَّيلِ، وأطرافَ النّهارِ!
فلعمري! إنَّ الحياةَ سريعةٌ بنا! ولوْ صَاحَبْنَاهُ دَهْرًا مَلِيًّا! وَأُمْتعنَا بِهِ زَمَنًا مَدِيدًا، لما قضَيْنَا منه نهمَتَنَا!
فكيفَ والحالُ أنَّا عن هديِهِ غافلونَ!
وبالسّفاسِفِ عنْهُ منشغلونَ!
وفي وديانِ ما لا يعنينَا تائِهونَ!
وبما في ذاكَ (الصَّاحبِ) من ربيعِ القلبِ (في الدُّنيا)، وفوزِ (الآخرةِ) زاهدونَ!!
هُوَ الَّذي لا يتغيّرُ ولا يتبدَّلُ مع مرِّ الأيّامِ!
وَلاَ يَخذُلُكَ في كلِّ حَالٍ وأوانٍ!
فمنْ هو هذا (الصَّاحبُ)؟

في روايةٍ صحَّحَها والدي، رحمهُ اللهُ، في "سلسلتِهِ الصّحيحة"*:
عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ! يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟
أَنَا الَّذِي كُنْتُ أُسْهِرُ لَيْلَكَ!
وَأُظْمِئُ هَوَاجِرَكَ!
وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ!
وَأَنَا لَكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تَاجِرٍ!
فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ!
وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ!
وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَانِ، لَا يَقُومُ لَهُمَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا!
فَيَقُولَانِ: يَا رَبُّ! أَنَّى لَنَا هَذَا؟!
فَيُقَالُ لَهُمَا: بِتَعْلِيمِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ!
وَإِنَّ صَاحِبَ الْقُرْآنِ يُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: اقْرَأْ، وَارْقَ فِي الدَّرَجَاتِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ مَعَكَ))!
* الحديث رقم (2829).
~ ~ ~
كتبتْهُ: حسّانة بنت محمّد ناصر الدّين بن نوح الألبانيّ.
الأحد: 17/جمادى الآخرة/1434هـ‍.

هلمُّوا إلى حِفْظِ (القُرْآنِ الْكَرِيْمِ) وتدبُّرِ (معانيهِ)!

هلمُّوا إلى حِفْظِ (القُرْآنِ الْكَرِيْمِ) وتدبُّرِ (معانيهِ)!
بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ...
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على خاتمِ الأنبياءِ والمرسلينَ، نبيِّنَا محمّدٍ صلّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ، أمَّا بعدُ:
ففي "صحيحِ البخاريِّ ومسلمٍ" عن حذيفةَ رَضِيَ الله عنهُ -في حديثِ الأمانةِ- قالَ:
حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ: حَدَّثَنَا:
((أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ))!
وفي روايةٍ أخرَى في "صحيح البخاريِّ":
((أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، وَنَزَلَ القُرْآنُ فَقَرَؤُوا القُرْآنَ، وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ))!
 جاءَ في: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح"، (8/ 3380):
"...قَالَ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا دِينَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ))، قُلْتُ: إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ آخِرًا وَمَا صَدَرَ أَوَّلًا مِنْ قَوْلِهِ: نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، فَإِنَّ نُزُولَ الْأَمَانَةِ بِمَعْنَى الْإِيمَانِ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِأَصْلِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يَعْلَمُونَ إِيقَانَهُ وَإِيقَانَهُمْ بِتَتَبُّعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَهِيَ جُزْئِيَّةٌ مِنْ كُلِّيَّةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ". اهـ‍
وفي "صحيح مسلم":
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ:
((أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ، أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ، فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ، وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟)) فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! نُحِبُّ ذَلِكَ!
قَالَ:
((أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ))!
ومعنَى (كَوْمَاوَيْنِ): "...الْكَوْمَا مِنَ الْإِبِلِ -بفتح الكافِ- العظيمةُ السّنامِ".اهـ‍ "شرح النّوويّ على مسلم".
وفي "عون المعبود شرح سنن أبي داوود":
"تَثْنِيَةُ كَوْمَاءَ؛ قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ وَاوًا، وَأَصْلُ (الْكَوْمِ): الْعُلُوُّ؛ أَيْ: فَيَحْصُلُ نَاقَتَيْنِ عَظِيمَتَيِ السَّنَامِ، وَهِيَ مِنْ خِيَارِ مَالِ الْعَرَبِ"!اهـ‍
وممَّا لا شكَّ فيه ولا ريبَ، أنَّ حفظَ القرآنِ الكَريمِ زادٌ للمسلمِ! يقْطَعُ به صحراءَ الدُّنيًا!
راجيًا لِقَاءَ ربِّهِ يومَ القيامةِ؛ فيجزيَهُ الجزاءَ الأوفَى! فيقالُ لَهُ: "اقْرَأْ، وَارْقَ وَرَتِّلْ"!
فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، رَضيَ اللهُ عنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ يَومَ القِيَامَةِ: اقْرَأْ، وَارْقَ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ كُنْتَ تَقْرَؤُهَا)).[1]
وكمْ مِنْ (حافظٍ للقرآنِ الكريمِ)، قد ألفَى حِفظَهُ أسهلَ ممَّا كانَ يعتقدُ!
وتردادَهُ وتكرارَهُ أحلى ممَّا كانَ يظّنُّ!
كيفَ لاَ! ومُنْزِّلُهُ -رَبُّنَا تبارَكَ وتعالى- قدْ قالَ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[سورة القمر:17]
وهوَ القائلُ -جلَّ جلالُهُ-: {كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ}[سورة ص:29].
قالَ العلاّمةُ السّعديُّ -رحِمَهُ اللهُ- في تفسيرِهِ "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان":
"فيهِ خيرٌ كثيرٌ! وعلمٌ غزيرٌ! فيهِ كلُّ هدًى من ضلالةٍ، وشفاءٌ من داءٍ، ونورٌ يُستضاءُ به في الظّلماتِ، وكلُّ حُكْمِ يحتاجُ إليه المكَلَّفونَ...!". اهـ‍
وممَّا يلمَسُهُ (الحافظُ) ذلكَ (الشّوقُ) الذي يقرعَ بابَ فؤادِهِ، وهو ينتقلُ بمحفوظِهِ من سورةٍ إلى تاليَتِهَا! ومن معانٍ إلى أخرَى!
فها هوَ في آياتِ سورةِ (البقرةِ)..
ومن ثُمَّ إلى سورةِ (آلِ عمرانَ)..
فالنّساءِ، فالمائدةِ... وهكذَا إلى أنْ يصلَ إلى آخرِ المصحفِ، وقد مرَّ لُبُّهُ على (معانٍ) لا ترتقِي في التّعبيرِ عن إعجازِهَا وبلاغَتِهَا بحورُ شاعرٍ! ولا سجعُ ناثرٍ!
بلْ إنَّ استذكارَ الحافظِ لحفظهِ فيه طعمٌ لا يطعمُهُ إلَّا من ذاق حلاوةَ حفظِ القرآنِ!!
فلعمرِي!  ما أبلغَ أنْ يجمعَ المرءُ قلبَهُ على تعاهُدِ  كلامِ (ربِّه) و(إلهِهِ) الذِي قالَ عن كتابهِ:
{اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}! [الزمر: 23]

فلأجلِ أنْ نحظَى بذاكَ الفضلِ العظيمِ!
ولِنقضيَ ما تبقَّى من أعمَارِنَا مع القرآنِ الكريمِ، بعيدينَ عَن قيلٍ وقالٍ!
مُقْبِلِيْنَ على أَصدْقِ الحَدِيْثِ، وعظيمِ المقالِ! 
سأشرَعُ -بحولِهِ تعالى وحدَهُ لاَ شريكَ لَهُ- بتخصيصِ قسمِ (حفظِ القرآنِ الكريمِ)، وفقَ الآتي:
1) أضعُ في الموضوع عددًا من الآيات الكريمةِ (التي ستُحفَظُ) ابْتداءً من سورةِ البقرةِ، بما يقاربُ ربعَ الحزبِ، تزيدُ أو تنقصُ؛ حسبَ حُسنِ القطعِ على المعاني.
2) آتي على شيءٍ من (المتشابه اللّفظيِّ) -إن لزمَ-.
3) أُعرِّجُ على بعضِ الكلماتِ من ناحية (الأحكام التّجويديّة)، وكيفيّة نطقها.

ألاَ! وإنّهُ قدْ أوحيَ إلى نبيِّنَا عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ -في سورة (ص) الآيةُ (25):
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (29)
لذا -وبحولِهِ تعالى-:
4) أردفُ الآياتِ (المقرَّرِ حفظُها) بتأويلِ بعضٍ منها، وبعضِ مفرداتِها من تفسير العلاَّمة السّعديّ
5) أضيفُ معلوماتٍ أخرَى، حينَ ورودِ ما يقتضي إيرادَ تلكَ المعلومةِ.
مستخدمةٍ في بعضِ ما سبقَ أسلوبَ (الأسئلة والأجوبةِ)، بعونِهِ تعالَى.
وذلكَ إعانةً على حفظِ الآياتِ الكريمة، وتدبُّرِ معانيهَا.
ومن ثُمَّ، وبُعَيْدَ أيَّامٍ -يغلبُ على الظنِّ أنها كافيةٌ لحفظِ ذاكَ المقدارِ من الآياتِ الكريمةِ- أضعُ -بمشيئتهِ تعالى- موضوعًا آخرَ؛ وفيهِ آياتُ الرّبعِ الموالي، على النّسَقِ السّابقِ نفسِهِ...
وهكذَا إلى أن تنتهيَ سورةُ البقرة، فآلِ عمرانَ وهكذا...
حسب تيسيرِ اللهِ تبارَكَ وتعالَى..
(وهذا جهدُ المقلّ)، إذ لا يتاح في هذه المساحة تحقيقُ ما في النّفسِ من التّوسّعِ في ما تستحقُّهُ مسألةُ (حفظِ كتابِ اللهِ) من طرحِ المزيدِ والمزيدِ!

ومُريدُ (الحفظِ)؛ ينبغي لهُ:
1- قراءةُ تفسيرِ الآياتِ المرادِ حِفظُهَا (كلمةُ كلمةً!) من تفسير العلاَّمةِ السّعديِّ -رحمهُ اللهُ-.

2- حِفظُهَا حِفظًا مُحْكَمًا!
دربُ الحفظِ طويلٌ! لكنّهُ دربٌ عامرٌ بالعبادةِ والحياةِ معَ كتابِ اللهِ، المجيدِ!
وحسبنَا أن يمضيَ فيهِ مريدُ الحفظِ -بعونه تعالى-، بإخلاصٍ ومتابعةٍ، وإن لم يصلْ!....
راجيةً اللهَ عزَّ وجلَّ أن يثيبنَا ويعينَنا ويتقبّلَ منَّا؛ ويجعله لوجهِ الكريم؛ إنُّه غفورٌ شكورٌ!
وأن يوفّقني على إفادةِ وإعانةِ السّالكينَ لهذا الطّريقِ!
ويرزقني الإخلاصَ والمتابعةَ والإحسانَ فيه!
ويجعلَهُ حجَّةً لي، وذخرًا بعدَ مماتي!
إنه بكلِّ شيءٍ عليمٌ!
حَسَّانَة بنت محمّد ناصر الدّين بن نوح الألبانيّ.
الإثنين: 12/ جمادى الآخرة/ 1434هـ‍.
ـــــــــــــــــــــــــــ






[1] -  قال عنهُ الوالدُ -رحمهُ اللهُ-: "حسن صحيح". يُنظر: "التّعليقات الحسان على صحيح ابن حبّان"، كتاب الرّقائق، باب قراءةِ القرآن،  الحديث رقم (763).

فيمَ نزلتِ الآيةُ الكريمةُ: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}؟

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسّلامُ على خاتَمِ الأنبياءِ والمرسلينَ، أمّا بعد:

فيمَ نزلتِ الآيةُ الكريمةُ:
{يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]
؟

- جاءَ في "صحيح البخاريّ"، كتاب الجنائز، باب ما جاءَ في عذابِ القبرِ، الحديث رقم (1369):
عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
 ((إِذَا أُقْعِدَ الـمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ، ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ}(1))).
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا - وَزَادَ -:
{يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا}: نَزَلَتْ فِي عَذَابِ القَبْرِ.

- وعند البخاري -أيضًا- كتاب تفسير القرآنِ، باب {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ}، الحديث رقم (4699):
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((الــمُسلِمُ إِذَا سُئِلَ فِي القَبْرِ: يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ})).

- وفي روايةٍ عند مسلم، كتاب صفة الجنّةِ والنّارِ، بابُ عَرْضِ مَقْعَدِ الميِّتِ من الجنّةِ أوِ النّارِ عليهِ، وإثباتِ عذابِ القبر والتّعوُّذِ منه، الحديث رقم: 73 - (2871)
 بَابُ عَرْضِ مَقْعَدِ الْمَيِّتِ مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ عَلَيْهِ، وَإِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ وَالتَّعَوُّذِ مِنْهُ
عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}، قالَ:
((نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَفِي الْآخِرَةِ})).

 أسألُه تعالى أن يثبِّتَنا بالقولِ الثّابتِ في الحياةِ الدّنيا وفي الآخرة؛ إنّهُ قريبٌ مجيبٌ.
~ ~ ~
حسّانة بنت محمّد ناصر الدّين بن نوح الألبانيّ.
الأربعاء: 7/ جمادى الآخرة/ 1434هـ‍

صلاةُ (الجماعةِ) في (المسجدِ) سُنّةُ نبيِّكُمْ محمّدٍ صلّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ!

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيمِ

صلاةُ (الجماعةِ) في (المسجدِ)
سُنّةُ نبيِّكُمْ محمّدٍ صلّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ!
 
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدَ نَاسًا فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ، فَقَالَ:
((لَقَدْ هَمَمْتُ أَنَّ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْهَا، فَآمُرَ بِهِمْ فَيُحَرِّقُوا عَلَيْهِمْ، بِحُزَمِ الْحَطَبِ بُيُوتَهُمْ، وَلَوْ عَلِمَ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَظْمًا سَمِينًا لَشَهِدَهَا!)). يَعْنِي صَلَاةَ الْعِشَاءِ (1)

وعَنْ أبي الأحوصِ قالَ: قالَ عَبْدُ اللهِ (2):
(لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَّا مُنَافِقٌ قَدْ عُلِمَ نِفَاقُهُ، أَوْ مَرِيضٌ! إِنْ كَانَ الْمَرِيضُ لَيَمْشِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ حَتَّى يَأْتِيَ الصَّلَاةَ)!
وَقَالَ:
(إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَنَا سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى: الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُؤَذَّنُ فِيهِ)!
وَفِي رِوَايَةٍ:
(مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ على هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ؛ فَإِنَّ اللهَ شرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ الْهُدَى! وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى! وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ؛ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ! وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ!
وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ؛ إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً! وَرَفَعَهُ بِهَا دَرَجَةً! ويحطَّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً! وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ! وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَام فِي الصَّفّ)!(3)

جاء في (شرح النّووي على مسلم):
"- قَوْلُهُ (رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنِ الصَّلَاةِ إِلَّا مُنَافِقٌ قَدْ عُلِمَ نِفَاقُهُ أَوْ مَرِيضٌ) هَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ لِصِحَّةِ مَا سَبَقَ تَأْوِيلُهُ فِي الَّذِينَ هَمَّ بِتَحْرِيقِ بُيُوتِهِمِ؛ أَنَّهُمْ كَانُوا (مُنَافِقِينَ)!
- قَوْلُهُ (عَلَّمَنَا سُنَنَ الْهُدَى): رُوِيَ بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِهَا، وَهُمَا بِمَعْنًى مُتَقَارِبٍ؛ أَيْ: طَرَائِقِ الْهُدَى وَالصَّوَابِ.
- قَوْلُهُ (وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ):
مَعْنَى (يُهَادَى)؛ أَيْ: يُمْسِكُهُ رَجُلَانِ مِنْ جَانِبَيْهِ بِعَضُدَيْهِ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِمَا! وَهُوَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ فِي الرواية الْأُولَى (إِنْ كَانَ الْمَرِيضُ لَيَمْشِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ).
وَفِي هَذَا كُلِّهِ تَأْكِيدُ أَمْرِ (الْجَمَاعَةِ)، وَتَحَمُّلُ الْمَشَقَّةِ فِي حُضُورِهَا، وَأَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ الْمَرِيضُ ونحْوُهُ التّوصّلَ إليهَا؛ اسْتُحِبَّ له حضُورُهَا"اهـ‍
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) "صحيح مسلم"، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة، (651).
(2) عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ، رضيَ اللهُ عنهُ.
(3) "صحيح مسلم"، كتاب المساجد ومواضع الصّلاة، باب صلاة الجماعَة من سُنن الهُدَى،(654).
....
حسّانة بنت محمّد ناصر الدّين بن نوح الألبانيّ.
الخميس: 23/جمادى الأولى/1434هـ