في معنى: {هَبَاءً مَنْثُورًا}

بسم الله الرحمن الرحيم

قالَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- في سورةِ "الفُرقان":

{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً (23)}.

 

قالَ الإمامُ ابنُ كثيرٍ -رحمَهُ اللهُ- في تفسيرهِ "تفسير القرآن العظيم"(1):

"وَهَذَا يَوْمَ القِيَامَةِ، حِينَ يُحَاسِبُ اللَّهُ العِبَادَ عَلَى مَا عَمِلُوهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ،

فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَتَحَصَّلُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْأَعْمَالِ -الَّتِي ظَنُّوا أَنَّهَا مَنْجَاةٌ لَهُمْ -شَيْءٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا فَقَدَتِ الشَّرْطَ الشَّرْعِيَّ:

- إِمَّا الإخْلَاصُ فِيهَا،

- وَإِمَّا المُتَابَعَةُ لِشَرْعِ اللَّهِ.

فَكُلُّ عَمَلٍ لَا يَكُونُ خَالِصًا، وَعَلَى الشَّرِيعَةِ الْمَرْضِيَّةِ، فَهُوَ بَاطِلٌ!

فَأَعْمَالُ الْكُفَّارِ لَا تَخْلُو مِنْ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنَ، وَقَدْ تَجْمَعُهُمَا مَعًا، فَتَكُونُ أَبْعَدَ مِنَ الْقَبُولِ حِينَئِذٍ؛

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} .

قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالثَّوْرِيُّ: {وَقَدِمْنَا} أَيْ: عَمَدْنَا.

وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: أَتَيْنَا عَلَيْهِ.

 

وَقَوْلُهُ: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} :

- عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: {هَبَاءً مَنْثُورًا}: شُعَاعُ الشَّمْسِ إِذَا دَخَلَ فِي الكُوَّة.

- عنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ: هُوَ الشُّعَاعُ فِي كُوَّةِ أَحَدِهِمْ، وَلَوْ ذَهَبَ يَقْبِضُ عَلَيْهِ لَمْ يَسْتَطِعْ!

- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {هَبَاءً مَنْثُورًا} قَالَ: هُوَ المَاءُ المِهْرَاقُ.

- عَنْ عَلِيٍّ: {هَبَاءً مَنْثُورًا} قَالَ: الهَبَاءُ: رَهْجُ(2) الدَّوَابِّ.

- وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَا رَأَيْتَ يَبِيسَ الشَّجَرِ إِذَا ذَرَتْهُ الرِّيحُ؟ فَهُوَ ذَلِكَ الوَرَقُ.

- عَنْ يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: وَإِنَّ (الهَبَاءَ): الرَّمَادُ.

 

وَحَاصِلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ:

التَّنْبِيهُ عَلَى مَضْمُونِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَمِلُوا أَعْمَالًا اعْتَقَدُوا أَنَّهَا شَيْءٌ،

فَلَمَّا عُرِضَتْ عَلَى المَلِكِ الحَكِيمِ العَدْلِ؛ الَّذِي لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا، إِذَا إِنَّهَا لَا شَيْءَ بِالكُلِّيَّةِ!

وَشُبِّهَتْ فِي ذَلِكَ بِالشَّيْءِ التَّافِهِ الحَقِيرِ المُتَفَرِّقِ!

الَّذِي لَا يَقْدِرُ مِنْهُ صَاحِبُهُ عَلَى شَيْءٍ بِالكُلِّيَّةِ.." انتهى بشيءٍ من الاختصارِ.

 

وفي اللّغة العربيّةِ في كتاب "مقاييس اللّغة"(3)، في مادَّة (هَبَاء):

"(هَبَوَ): الهَاءُ وَالبَاءُ وَالحَرْفُ المُعْتَلُّ: كَلِمَةٌ تَدُلُّ علَى غَبَرَةٍ وَرِقَّةٍ فِيهَا.

مِنْهُ: الهَبْوَةُ: الغَبَرَةُ.

وَهَبَا الغُبَارُ يَهْبُو فهُوَ هَابٍ: سَطَعَ.

وَالهَبَاءُ: دُقَاقُ التُّرَابِ.

قَالَ:

تَزَوَّدَ مِنَّا بَيْنَ أُذْنَاهُ ضَرْبَةً ... دَعَتْهُ إِلَى هَابِي التُّرَابِ عَقِيمُ

وَهَبَا الرَّمَادُ: اخْتَلَطَ بِالتُّرَابِ وَهَمَدَ.

وَالشَّيْءُ الْمُنْبَثُّ الَّذِي تَرَاهُ فِي ضَوْءِ الشَّمْسِ: هَبَاءٌ". اهـ

- - -

 (1) ج 6، ص: 103، ط 2، 1432هـ‍، تحقيق : سامي بن محمّد السّلامة، دار طيبة للنّشر والتّوزيع، الرّياض.

(2) ومعنى (رَهْج): الغبار.

(3) تأليف: أبو الحسين أحمد بن زكريّا، ص: 929، ط 1429هـ‍‍‍‍‍، راجعه وعلَّق عليه: أنس محمد الشّامي، دار الحديث، القاهرة.