ما هوَ الإحسانُ الذي كان من يوسفَ عليهِ السّلامُ؛ في السّجن؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ، والصّلاةُ والسّلَامُ على رسولِ اللهِ، أمَّا بعدُ:

قالَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- في سورةِ "يوسُف":

{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)}.

 

• ما هوَ الإحْسانُ الذي كانَ من يُوسُفَ عَلَيهِ السَّلَامُ؛ في السّجْنِ؟

 

قالَ الإمامُ الطّبريُّ* -رحمَهُ اللهُ-:

- سَأَلَ رَجُلٌ الضَّحَّاكَ؛ عَنْ قَوْلِهِ: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}

مَا كَانَ إِحْسَانُهُ؟

قَالَ: كَانَ إِذَا مَرِضَ إِنْسَانٌ فِي السِّجْنِ؛ قَامَ عَلَيْهِ، وإِذَا احْتَاجَ؛ جَمَعَ لَهُ، وإِذَا ضَاقَ عَلَيْهِ المَكَانُ؛ أَوْسَعَ لَهُ.

- وعَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، قَالَ:

بَلَغَنَا أَنَّ إِحْسَانَهُ أَنَّهُ كَانَ: يُدَاوِي مَرِيضَهُمْ، ويُعَزِّي حَزِينَهُمْ، ويَجْتَهِدُ لِرَبِّهِ.

وَقَالَ: لَمَّا انْتَهَى يُوسُفُ إِلَى السِّجْنِ وَجَدَ فِيهِ قَوْمًا قَدِ انْقَطَعَ رَجَاؤُهُمْ، واشْتَدَّ بَلَاؤُهُمْ، فَطَالَ حُزْنُهُمْ، فَجَعَلَ يَقُولُ:

أَبْشِرُوا واصْبِرُوا؛ تُؤْجَرُوا.. إِنَّ لِهَذَا أَجْرًا.. إِنَّ لِهَذَا ثَوَابًا.

فَقَالُوا: يَا فَتًى! بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ؛ مَا أَحْسَنَ وَجْهَكَ، وأَحْسَنَ خُلُقَكَ!

لَقَدْ بُورِكَ لَنَا فِي جِوَارِكَ، مَا نُحِبُّ أَنَّا كُنَّا فِي غَيْرِ هَذَا مُنْذُ حُبِسْنَا لِمَا تُخْبِرُنَا مِنَ الأَجْرِ وَالكَفَّارَةِ وَالطَّهَارَةِ، فَمَنْ أَنْتَ يَا فَتًى؟!

قَالَ: أَنَا يُوسُفُ ابْنُ صَفِّي اللَّهِ: يعْقُوبَ، ابْنِ ذَبِيحِ اللَّهِ: إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ. 

وكَانَتْ عَلَيهِ مَحَبَّةٌ!

وقَالَ لَهُ عَامِلُ السِّجْنِ: يَا فَتًى! واللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْتُ؛ لَخَلَّيْتُ سَبِيلَكَ، وَلَكِنْ سَأُحْسِنُ جِوَارَكَ، وَأُحْسِنُ إِسَارَكَ، فَكُنْ فِي أَيِّ بُيُوتِ السِّجْنِ شِئْتَ!

 

وأوردَ الإمامُ الطّبريُّ قولًا آخرَ، في قولِهِ:

وقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} إِذْ نَبَّأْتَنَا بِتَأْوِيلِ رُؤْيَانَا هَذِهِ.

 

ولكنَّ الإمامَ الطّبريَّ -رحمَهُ اللهُ- رجَّحَ قائلًا:

"وأَوْلَى الأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ -عِنْدَنَا- بِالصَّوَابِ؛ الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ".

 

 وأردفَ هذهِ اللّفتةَ المهمَّةَ:

"فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ:

ومَا وَجْهُ الكَلَامِ إِنْ كَانَ الأَمْرُ إِذَنْ كَمَا قُلْتَ؟ وقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَسْأَلَتَهُمَا يُوسُفَ أَنْ يُنَبِّئَهُمَا بِتَأْوِيلِ رُؤْيَاهُمَا؛ لَيْسَتْ مِنَ الخَبَرِ عَنْ صِفَتِهِ بِأَنَّهُ يَعُودُ المَرِيضَ، ويَقُومُ عَلَيْهِ وَيُحْسِنُ إِلَى مَنِ احْتَاجَ فِي شَيْءٍ، وإِنَّمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِ هَذَا فَإِنَّكَ (عَالِمٌ)، وَهَذَا مِنَ المَوَاضِعِ الَّتِي تَحْسُنُ بِالوَصْفِ بِـ(العِلْمِ) لَا بِغَيْرِهِ؟

قِيلَ: إِنَّ وَجْهَ ذَلِكَ أَنَّهُمَا قَالَا لَهُ: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِ رُؤْيَانَا مُحْسِنًا إِلَيْنَا فِي إِخْبَارِكَ إِيَّانَا بِذَلِكَ؛ كَما نَرَاكَ تُحْسِنُ فِي سَائِرِ أَفْعَالِكَ، إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ" انتهى. بشيْءٍ منَ الاخْتِصار.

واللهُ تعالى أعلمُ.

وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمّدٍ وعلى آلِهِ  وسلَّمَ.

الجمعة 21 ربيع الثّاني 1443هـ‍

- - -

* "تفسير الطّبريّ جامع البيان عن تأويل آيِ القرآن"، الجزء: 16، ص: 98-100

تحقيق: مكتب التّبيان على نسخة المخطوط التي اعتمدها الشّيخان أحمد شاكر، ومحمود شاكر وغيرها،

ط1، دار ابن الجوزيّ، القاهرة.