معَ (الِاسْتَشَارةِ).. ومَنْ نسْتَشيرُ؟!...










معَ (الِاسْتَشَارةِ)
ومَنْ نسْتَشيرُ؟!...

بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرحيمِ...
من بعدِ حمدِهِ تعالىٰ، والصّلاةِ والسّلامِ علىٰ نبيِّنَا محمّدٍ..
هَٰذِهِ معلوماتٌ متعلِّقَةٌ بـ (الاستشارةِ)، جمعتُهَا؛ سائلةً اللهَ أن تكونَ لعبادِهِ نافعة
وعندَهُ -جلَّ جلَالُهُ- مقبولة...
1) الاستشارةُ في القرآنِ الكريم:
قالَ اللهُ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشّورىٰ: 38]
وقالَ عزَّ وجلَّ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}[آل عمران: 159]

2) وفي السّنّةِ:
قالَ رَسولُ اللهِ صلَّىٰ اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
 ((الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ))![1]

3) في معنىٰ الحديث:
- "حاشية السنّدي علىٰ سنن ابنِ ماجه":
"قَوْلُهُ: (الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ)؛ أَيْ: أَمِينٌ؛ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخُونَ الْمُسْتَشِيرَ بِكِتْمَانِ الْمَصْلَحَةِ! وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ!"[2] اهـ‍
- "عون المعبود وحاشية ابن القيّم":
"(الْمُسْتَشَارُ)؛ أَيْ: الَّذِي طُلِبَ مِنْهُ الْمَشُورَةُ وَالرَّأْيُ.
(مُؤْتَمَنٌ): اسْمُ مَفْعُولٍ، مِنَ (الْأَمْنِ)، أَوِ (الْأَمَانَةِ)!
قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا يُسْأَلُ مِنَ الْأُمُورِ؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخُونَ الْمُسْتَشِيرَ بِكِتْمَانِ مَصْلَحَتِهِ"[3] اهـ ‍

4) أصلُ معنىٰ (الاستشارةِ) في لغتنا العربيّةِ:
جاءَ في "معجم مقاييس اللُّغة":
"(شَوُرَ) الشِّينُ وَالْوَاوُ وَالرَّاءُ أَصْلَانِ مُطَّرِدَانِ:
الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: إِبْدَاءُ شَيْءٍ وَإِظْهَارُهُ وَعَرْضُهُ.
وَالْآخَرُ: أَخْذُ شَيْءٍ...
وَمنَ الْبَابِ الْآخَرِ: قَوْلُهُمْ: شُرْتُ الْعَسَلَ أَشُورُهُ. وَقَدْ أَجَازَ نَاسٌ: أَشَرْتُ الْعَسَلَ،
وَالْمَشَارُ: الْخَلِيَّةُ يُشْتَارُ مِنْهَا الْعَسَلُ.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: مِنْ هَذَا الْبَابِ: شَاوَرْتُ فُلَانًا فِي أَمْرِي.
قَالَ: وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ شَوْرِ الْعَسَلِ؛ فَكَأَنَّ الْمُسْتَشِيرَ يَأْخُذُ الرَّأْيَ مِنْ غَيْرِهِ!
قَالُوا: وَمِمَّا اشْتُقَّ مِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ فِي الْبَعِيرِ: هُوَ مُسْتَشِيرٌ، وَهُوَ الْبَعِيرُ الَّذِي يَعْرِفُ"[4] اهـ‍ باختصار.

5) خصالُ من هوَ أهلٌ للمشورةِ!
جمعَ العلّامةُ الماورديُّ -رحمهُ اللهُ- في كتابِهِ: "أدب الدّنيا والدّين"[5]، صفاتِ من هوَ أهلٌ (للمشورةِ) في خمسِ خصالٍ، فقالَ:
"فَإِذَا عَزَمَ عَلَى (الْمُشَاوَرَةِ)؛ ارْتَادَ لَهَا مِنْ أَهْلِهَا مَنْ قَدْ اسْتَكْمَلَتْ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ:
إحْدَاهُنَّ:
(عَقْلٌ كَامِلٌ) مَعَ (تَجْرِبَةٍ سَالِفَةٍ)!
فَإِنَّ بِكَثْرَةِ التَّجَارِبِ تَصِحُّ الرَّوِيَّةُ!
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَسَنِ لِابْنِهِ مُحَمَّدٍ:
"احْذَرْ مَشُورَةَ الْجَاهِلِ؛ وَإِنْ كَانَ نَاصِحًا؛ كَمَا تَحْذَرُ عَدَاوَةَ الْعَاقِلِ إذَا كَانَ عَدُوًّا!
فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُوَرِّطَك بِمَشُورَتِهِ، فَيَسْبِقَ إلَيْك مَكْرُ الْعَاقِلِ وَتَوْرِيطُ الْجَاهِلِ"!
وَقِيلَ لِرَجُلٍ مِنْ عَبْسٍ:
مَا أَكْثَرُ صَوَابِكُمْ؟
قَالَ: نَحْنُ أَلْفُ رَجُلٍ! وَفِينَا حَازِمٌ، وَنَحْنُ نُطِيعُهُ فَكَأَنَّا أَلْفُ حَازِمٍ!
وَكَانَ يُقَالُ: إيَّاكَ وَمُشَاوَرَةَ رَجُلَيْنِ:
شَابٌّ مُعْجَبٌ بِنَفْسِهِ، قَلِيلُ التَّجَارِبِ فِي غَيْرِهِ![6]
أَوْ كَبِيرٌ؛ قَدْ أَخَذَ الدَّهْرُ مِنْ عَقْلِهِ؛ كَمَا أَخَذَ مِنْ جِسْمِهِ!
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ:
كُلُّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إلَى الْعَقْلِ، وَالْعَقْلُ يَحْتَاجُ إلَى التَّجَارِبِ!
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: التَّجَارِبُ لَيْسَ لَهَا غَايَةٌ، وَالْعَاقِلُ مِنْهَا فِي زِيَادَةٍ!
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ اسْتَعَانَ بِذَوِي الْعُقُولِ؛ فَازَ بِدَرَكِ الْمَأْمُولِ!
وَقَالَ أَبُو الاسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ:
وَمَا كُــــــلُّ ذِي نُصْــــــحٍ بِمُؤْتِيك نُصْحَـهُ ... وَلَا كُـــلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبِ!
وَلَكِنْ إذَا مَا اسْتَجْمَعَا عِنْدَ صَاحِبٍ ... فَحُـقَّ لَهُ مِــــنْ طَاعَـةٍ بِنَصِيبِ!

• وَالْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ:
أَنْ يَكُونَ (ذَا دِينٍ وَتُقًى)! فَإِنَّ ذَلِكَ عِمَادُ كُلِّ صَلَاحٍ وَبَابُ كُلِّ نَجَاحٍ!
وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ (الدِّينُ)؛ فَهُوَ (مَأْمُونُ السَّرِيرَةِ)، (مُوَفَّقُ الْعَزِيمَةِ)!

• وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ:
أَنْ يَكُونَ (نَاصِحًا وَدُودًا)!
فَإِنَّ النُّصْحَ وَالْمَوَدَّةَ يُصَدِّقَانِ الْفِكْرَةَ، وَيُمَحِّضَانِ الرَّأْيَ!
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: لَا تُشَاوِرْ إلَّا الْحَازِمَ غَيْرَ الْحَسُودِ، وَاللَّبِيبَ غَيْرَ الْحَقُودِ!

• وَالْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ:
 أَنْ يَكُونَ سَلِيمَ الْفِكْرِ مِنْ هَمٍّ قَاطِعٍ، وَغَمٍّ شَاغِلٍ!
فَإِنَّ مَنْ عَارَضَتْ فِكْرَهُ شَوَائِبُ الْهُمُومِ؛ لَا يَسْلَمُ لَهُ رَأْيٌ، وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُ خَاطِرٌ!

• وَالْخَصْلَةُ الْخَامِسَةُ:
 أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْأَمْرِ الْمُسْتَشَارِ (غَرَضٌ يُتَابِعُهُ)! وَ(لَا هَوًىٰ يُسَاعِدُهُ)!
فَإِنَّ (الْأَغْرَاضَ) جَاذِبَةٌ، وَ(الْهَوَىٰ) صَادٌّ!
وَ(الرَّأْيُ) إذَا عَارَضَهُ (الْهَوَىٰ)، وَجَاذَبَتْهُ (الْأَغْرَاضُ) فَسَدَ!"[7] اهـ
والله تعالىٰ أعلم.

يتبع إن شاءَ اللهُ...
~ ~ ~
الأحد: 20/شهر الله المحرَّم/ 1435هـ‍


[1] -  رواهُ ابنُ ماجه وأبو داودَ، وصحَّحَهُ الوالدُ -رحمهُمُ اللهُ أجمعين-. "سلسلة الأحاديث الصّحيحة"، رقم (1641). 
[2] - (2/ 408)
[3] - (14/ 25)
[4] - (3/ 226-227). باختصار، وتصرّف يسير جدًّا.
[5] - ط: دار مكتبة الحياة.
[6] - ننتبه إلىٰ أنَّ المصنّفَ -رحمهُ اللهُ- لم ينفِ استشارةَ (الشّابِّ) بالكليّةِ، وإنّما قيّدهَا بما ذكرَ؛ فهناك من حديثي السّنّ من وهبَهُمُ اللهُ عقلًا راجحًا، ورأيًا سديدًا؛ يفوقُ من هم أكبرُ سنًّا!
[7] - (ص: 301-302). مختصَرًا.