بسمِ اللهِ الرّحمن الرّحيم..
"طَبَقَاتُ طُلَّابِ العِلْمِ"!...
للعلَّامةِ الشّوكانيِّ
• قالَ العلَّامةُ الشّوكانيُّ -رحمَهُ
اللهُ- في كتابِهِ: "أدبُ الطَّلبِ ومُنتْهى الأرَب":
"فَأَقُولُ: إِنَّهَا لـمَّا كَانَتْ
تَتَفَاوَتُ (المطالِبُ) فِي هَذَا الشَّأْنِ، وتتباينُ الْمَقَاصِدُ بتفاوتِ هممِ
(الطَّالبينَ) وأغراضِ (القاصدين):
1) فقدْ
ترْتَفعُ همَّةُ الْبَعْضِ مِنْهُم، فيقصدُ الْبلُوغَ إِلَى مرتبَةٍ فِي (الطَّلَبِ
لعِلْمِ الشَّرْعِ)، ومقدِّمًا لَهَا؛ يكونُ -عِنْد تَحْصِيلهَا- إِمَامًا مرجُوعًا
إِلَيْه! مستفادًا مِنْهُ! مأخوذًا بقولِهِ! مدرِّسًا! مفتيًا! مُصَنِّفًا!
2) وَقدْ
تقصُرُ همَّتُهُ عَنْ هَذِه الْغَايَةِ! فَتكونُ غَايَةُ مقْصدِهِ، ومعظَمُ مطْلَبِهِ،
وَنِهَايَةُ رغبَتِهِ: أَنْ يعرِفَ مَا طلبَهُ مِنْهُ الشَّارِعُ من أَحْكَام التَّكْلِيفِ
والوضْعِ على وَجْهٍ يسْتَقلُّ فِيهِ بِنَفسِهِ، وَلَا يحْتَاجُ إِلَى غَيرِه، مِنْ
دُونِ أَنْ يتَصَوَّرَ الْبلُوغَ إِلَىٰ مَا تصَوَّرَهُ أهلُ (الطَّبَقَةِ الأُوْلىٰ)
من تعدِّي فَوَائِدِ معارفِهِم إِلَى غَيرِهم، وَالْقِيَامِ فِي مقَامِ أكَابِر الْأَئِمَّةِ،
ونَحاريرِ هَذِه الْأمَّة!
3) وَقد
يكون نِهَايَةُ مَا يُريدهُ، وَغَايَةُ مَا يَطْلُبهُ: أمرًا (دونَ أهْلِ الطَّبَقَةِ
الثَّانِيَة)! وَذَلِكَ كَمَا يكونُ من جمَاعَةٍ يرغبونَ إِلَى إصْلَاحِ ألسنتِهِمْ،
وتقويمِ أفهامِهِمْ بِمَا يقتدرُونَ بِهِ على فهم مَعَاني مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ
من الشَّرْع وَعدمِ تحريفِهِ وَتَصْحِيفه وتغييرِ إعرابِهِ من دونِ قصدٍ مِنْهُم إِلَىٰ
الِاسْتِقْلَالِ، بل يعزمونَ على التَّعويلِ على السُّؤَالِ عِنْد عرُوض التَّعَارُضِ،
والاحتياجِ إِلَى التَّرْجِيحِ.
فَهَذِهِ (ثَلَاثُ) طَبَقَاتٍ (للطَّلَبَةِ
من المتَشَرِّعِين) الطَّالبينَ للاطِّلاعِ على مَا جَاءَ فِي (الْكتاب وَالسُّنَّة)
إِمَّا كُلًّا أَو بَعْضًا، بِحَسبِ اخْتِلَاف الْمَقَاصِدِ، وتفاوُتِ المطَالبِ!
4) وَثمَّ
(طبقَةٌ رَابِعَةٌ) يقصِدُونَ الْوُصُولَ إِلَى عِلْمٍ منَ الْعُلُوم، أَو عِلْمَينِ
أَوْ أَكثرَ؛ لغَرَضٍ من الْأَغْرَاضِ الدِّينِيَّة والدُّنيويَّةِ؛ منْ دون تصوُّرِ
الْوُصُول إِلَىٰ (عِلْمِ الشَّرْعِ)!
فَكَانَتِ الطَّبَقَاتُ (أَربعًا)!
- وَيَنْبَغِي لمن كَانَ صَادِق الرَّغْبَةِ،ـ
قويَّ الْفَهْمِ، ثاقبَ النَّظَرِ، عَزِيز النَّفسِ، شَهْمَ الطَّبْعِ، عاليَ الهمَّةِ،
ساميَ الغريزةِ؛ أَنْ لَا يرضَىٰ لنَفسِهِ بالدُّونِ! وَلَا يقنعَ بِمَا دون الْغَايَةِ!
وَلَا يقْعدَ عَن الْجدِّ وَالِاجْتِهَاد المبلِّغَين لَهُ إِلَىٰ أَعلَىٰ مَا يُرَادُ،
وَأَرْفَعِ مَا يُسْتَفَادُ! فَإِنَّ النُّفُوسَ الأبِيَّةَ! والهمَمَ الْعَلِيَّةَ
لَا ترْضىٰ بِدُونِ الْغَايَةِ فِي (المطَالبِ الدُّنْيَوِيَّة)؛ من جَاهٍ، أَو مَالٍ،
أَو رئاسةٍ، أَو صناعَةٍ، أَو حِرْفَةٍ...
- وَإِذا كَانَ هَذَا شَأْنهمْ فِي (الْأُمُور
الدُّنْيَوِيَّةِ) الَّتِي هِيَ سَريعةُ الزَّوَالِ! قريبَةُ الاضْمِحلالِ! فَكيفَ
لَا يكونُ ذَلِكَ من مَطَالبِ المتوجِّهِين إِلَى مَا هُوَ (أشرَفُ مَطْلَبًا)! وَ(أَعْلَىٰ
مكْسَبًا)! وَ(أَرْفَعُ مرَادًا)! وَ(أجَلُّ خَطَرًا)! وَ(أعْظَمُ قَدْرًا)! وَ(أعْوَدُ
نَفْعًا)! وَ(أتمُّ فَائِدَةً)! وَهِي (المطالِبُ الدِّينِيَّة)، مَعَ كَونِ (الْعِلْمِ)
أَعْلَاهَا وأُوْلَاهَا بِكُلِّ فَضِيلَةٍ، وأجَلَّهَا وأكمَلَها فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ؛
وَهُوَ (الْخَيْرُ الأخْرَويُّ)! فَإِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- قدْ قَرَنَ (الْعلمَاءَ)
فِي كِتَابهِ (بِنَفسِهِ)! وَ(مَلَائِكَتهِ)، فَقَالَ: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ
إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ}[آل عمران: 18]..." اهـ
مع اختصار.
* (ص: 112-113)، ط1 (1415هـ)،
مكتبة ابن تيمية، القاهرة.
- - -
الإثنين 21 شعبان 1436هـ