الدُّخُولُ فِي (رَمَضَانَ) بَينَ (الخَوفِ والرَّجَاءِ)!
بسمِ اللهِ الرَّحمَٰنِ الرَّحِيم...
إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ
من يهدِهِ اللهُ فلَا مضلَّ لهُ، ومن يُضللْ
فلَا هاديَ لهُ
وأشهدُ أنْ لَا إلَٰهَ إلَّا اللهَ وحدَهُ لا
شريكَ لَهُ وأنَّ محمَّدًا عبْدُهُ ورسولُهُ أمَّا بعدُ...
ففي سورةِ
"الإسْراءِ"، في الآيةِ رقم (80)، جَاءَ قَولُهُ سُبحانَهُ وتَعَالَىٰ:
{وَقُل رَّبِّ
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن
لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً}
• وفي تفسير هَٰذِهِ الآيةِ الكريمةِ؛ قالَ
العلَّامَةُ السّعديُّ -رحمَهُ اللهُ-:
"أيِ: اجْعلْ (مَدَاخِلِي) و(مخَارجِي) كلَّها
في (طَاعتِكَ)، وعلىٰ (مرضَاتِكِ)؛ وذَٰلكَ:
- لتضمُّنِها (الإخْلاصَ)!
- وموافقتِها (الأمرَ)!
{وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا
نَصِيرًا}؛ أيْ: حُجَّةً ظاهرةً، وبُرهانًا قاطعًا علىٰ (جميعِ ما آتيهِ)، و(ما أذَرُهُ)!
وهَٰذا (أعلىٰ حالةٍ) يُنْزِلُها اللهُ العبْدَ! أنْ تكونَ أحْوالُهُ كلُّها (خيرًا)
و(مقرِّبَةً لَهُ إلىٰ ربِّهِ)! وأنْ يكونَ لَه -علىٰ كلِّ حَالةٍ مِنْ أحْوالِهِ-
دَليلًا ظاهِرًا، وذَٰلكَ متضمِّنٌ للعلْمِ النَّافعِ، والعمَلِ الصَّالحِ، للعلْمِ
بالمسائلِ والدَّلائلِ". انتهىٰ كلَامُه، رحمَهُ الله.
• قالَ الإمامُ ابنُ القيّمِ -رحمَهُ اللهُ- في
"مدارج السَّالكين":
"..فَـ(مُدْخَلُ الصِّدْقِ)، وَ(مُخْرَجُ
الصِّدْقِ): أَنْ يَكُونَ دُخُولُهُ وَخُرُوجُهُ حَقًّا ثَابِتًا بِاللهِ! وَفِي
مَرْضَاتِهِ مُتَّصِلًا بِالظَّفَرِ بِالْبُغْيَةِ، وَحُصُولِ الْمَطْلُوبِ! ضِدَّ
(مُخْرَجِ الْكَذِبِ) وَمُدْخَلِهِ الَّذِي لَا غَايَةَ لَهُ يُوَصَلُ إِلَيْهَا،
وَلَا لَهُ سَاقٌ ثَابِتَةٌ يَقُومُ عَلَيْهَا!.." انتهىٰ كلَامُه، رحمَهُ
الله.
(3/ 9)، ط3 (1429هـ)،
ت: عبد العزيز الجُليل، دار طيبة للنّشر والتّوزيع، الرّياض.
• ألَا وإنَّ مِنَ (أحْوالِ العبدِ المسلِمِ)
الَّتي تَسْتَرْسِلُ معَها آمَالُه، ويَنْبَسِطُ لأجلِهَا حديثُ أحْلَامِه؛ في أنْ
يَدْخُلَ صادقًا مطيعًا مُرضِيًا للهِ عزَّ وجلَّ، باغيًا منزلةً عاليةً عندَ
ربِّهِ؛ هوَ (الدّخولُ في شهرِ الصّيامِ، شهرِ رمضانَ المباركِ) منذُ؛ بلْ قَبْلَ
إهلَالِ هلَالِه، والشُّروعِ في صيَامِ أوّلِ أيّامِه!
• ولذَا تَرى (العبْدَ المسلمَ الصّادقَ الصَّائِمَ)
بالرَّغمِ من فرَحِهِ معَ مطلَعِ هَٰذا (الشّهْرِ المبارِكِ) واستبشارِهِ؛ تَرىٰ
حالَهُ دائرًا بينَ (الخوفِ والرَّجاء)؛ لأجلِ تحقيقِ الغايةِ منَ الصّيامِ!
قالَ اللهُ -عزَّ وجلَّ-: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ
مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
• خائفٌ، مِنْ أنْ لَا يكونَ صيامَهُ إيمانًا
واحتسابًا! فيخرجَ من رمضانَ بلا كفّارةٍ ولا غُفران!
وَهِلٌ، مِنْ أنْ لَا يكون في صيامِهِ وسحورِهِ
إفطارِهِ متَّبِعًا لسُنَّةِ نبيِّهِ!.. عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ
وَجِلٌ، مِنْ كلمةِ زُورٍ؛ تطيشُ بصفحةِ
صيامِهِ؛ فلا يكونُ حظُّهُ إلَّا عَطَشَهُ وجوعَهُ!
رَهِبٌ، من أن تطلُعَ شمسُ ليلةِ القدْرِ، وقدْ
فرَّطَ في قِيامِهَا، وما وُفِّقَ إليهَا!
فَزِعٌ، منْ أن يُسْفِرَ فَجْرُ لياليهِ وما
أعتِقَ من النّيرانِ!
هيَّابٌ مِن أنْ تَنْصِرِمَ أيَّامُهُ وقدْ
أغرَقَها بالمباحاتِ الملهياتِ عن مقصودِ الصِّيام، وعن تِلَاوةِ وتدبُّرِ القرآنِ
في الشَّهْرِ الذي أُنْزلَ فيهِ القرآنُ!
مُرتاعٌ، من تقاعُسِ نفسِهِ عَنْ تلبيةِ النِّداءِ
الَّذي أخبرَنا بهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ،
وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ))! رواهُ
ابن ماجه، وصحَّحَهُ الوالدُ -رحمَهُ اللهُ-. "سنن التّرمذيّ"، (628).
فَرِقٌ، مِنْ أنْ يَصْطَفَّ في (مُصَلَّى العيدِ)
بين المصلّينَ؛ وقدِ ارتدىٰ لباسَ النَّدمِ والحسرةِ على التّفريطِ والتّقصيرِ فيما
سَلفَ من رمضان!
مُستطِيرٌ، مِنْ عارضٍ يُحرَمُ بسبَبِهِ من
(فَرْحَتِهِ) بفِطْرِهِ، ويومَ (لقائِهِ لخالِقِهِ)!
• قالَ بعضهُمْ:
أَيُّهَا
الرَّاقِدُ ذَا اللَّيلَ التَّمَامْ ... قُمْ بِجِدٍّ فَاللَّيَالِي فِي
انْصِرَامْ!
وَتَقَرَّبْ
بِصَلاَةٍ وَصِيَامْ ... وَابْتَهِلْ للهِ فِي جُنْحِ الظَّلاَمْ!
فَعَسَى
تلْحَقُ بِالْقَومِ الْكِرَامْ!
• وفي الوقتِ نفسِهِ ترىٰ ذَاكَ (العبْدَ
المسلمَ الصّادقَ الصَّائِمَ الخائفَ) تفيضُ عينَاهُ بالبكاء، وقلبُهُ بالرَّجاءِ
في (الرَّحمَٰنِ الرَّحيمِ) الَّذي يعَلمَ (خوفَهُ)، و(حُرْقَتَهُ)، و(نيَّتَهُ)،
و(عزيمَتَهُ)، و(رغبَتَهُ) بالفوزِ بشهرِ الصّيامِ، ورضَا الرَّحمَٰن!
كيفَ لَا! وربُّهُ أَقْرَبُ إليهِ من حبْلِ
الوريدِ!
وهوَ القائِلُ -عزَّ من قائلٍ-: {إِنَّ اللّهَ
كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النِّساء: 29]
والقائلُ -جلَّ وعلَا-: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ
ضَعْفاً} [الأنفال: 66]
والقائلُ -سُبحانَهُ-: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]
إنَّهُ (رجاءٌ صادقٌ) يُحيِي في قلْبِهِ
المسارعةَ إلى طلَبِ التّيسيرِ والعونِ من اللهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]
فيرجُو مولَاهُ مبتهلًا متذلِّلًا خاضعًا لهُ
ليُوفِّقَهُ إلى (الصِّيامِ والقيامِ والذِّكْرِ
والدُّعاءِ)!
ولِيقوِّيَ جوارِحَهُ علَى الطّاعة!
ويَجبُرَ النّقصَ الَّذي يعتريهِ بسبب
بشريَّتِهِ الضّعيفَة؛ فلا حولَ ولَا قوَّةَ لَهُ على الطّاعةِ إلَّا بالله!
ويسْتدْرِكَ شهرَهَ قبلَ رَحيلِهِ! فـ(رمضانُ) موسِمُ
العُمرِ كُلِّهُ، ولكأنَّهُ اخْتزَالٌ لحياةِ المرءِ كلِّهَا!
ولِيُكْرِمَهُ بالأسبابِ التي بها يكونُ صائمًا
قائمًا على الوجهِ الذي يُرضِي الذي أمرَهُ بالصّيام!
ولِيَقبَلَهُ معَ تقصيرِهِ وذنوبِهِ؛ فيجبرَ كَسْرَهُ!
ويُسْبِغَ عليهِ نعمةَ (عَفْوِه)!
فيخرُجُ من (عبادةِ الصّيام) خائفًا راجيًا أن
يكونَ قدْ أقامَ الطّاعةَ؛ وحقَّقَ الغايةَ!
قالَ -تباركَ وتعالىٰ-: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ
مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}
[المؤمنون: 60]
وقالَ -جلَّ وعلَا- : {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ
آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ
رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ
إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزُّمَر: 9]
• قالَ العلَّامةُ العُثَيمين -رَحمَهُ اللهُ- في
شرحِ "ثلاثةِ الأصولِ"، خلَالَ بيانِهِ لِـ (الخوفِ المحمودِ):
"...فـ(المحمودُ) ما كانتْ غايتُهُ أنْ
يحولَ بينَكَ وبينَ معصيةِ اللهِ؛ بحيثُ يحملُكَ على فِعْلِ الواجِباتِ، وتَرْكِ
المحرَّماتِ، فإذَا حصلَتْ هَٰذِهِ الغَايةُ؛ سكَنَ القلبُ! واطْمأنَّ وغلبَ عليهِ
الفرحُ بنعمةِ اللهِ، والرَّجاءِ لثوابهِ، وَ(غيرُ المحمودِ) ما يحمِلُ العبدَ على
اليأسِ مِن رَّوحِ اللهِ، والقُنُوطِ؛ وحينئذٍ يتحسَّرُ العبدُ، وينكمِشُ، وربَّما
يتمَادىٰ في المعصيةِ؛ لِقُوَّةِ يأْسِهِ!"...
إلىٰ أن قالَ -رحمَهُ اللهُ- عنِ (الرَّجاء
المحمودِ):
"..واعْلَمْ! أنَّ (الرَّجاءَ المحمودَ) لا
يكونُ إلَّا لِمَنْ عَمِلَ بطَاعَةِ اللهِ، ورَجَا ثَوابَهَا، أوْ تابَ مِنْ
معصِيَتِهِ، ورَجَا قَبُولَ توبَتِهِ، فأمَّا (الرَّجاءُ بِلَا عَمَلٍ)؛ فَهُوَ
غُرورٌ، وتَـمَنٍّ مذمومٍ!" انتهىٰ كلَامُهُ، رحِمَهُ اللهُ.
(ص: 57-58) ط2
(1426هـ)، دار الثّريّا، الرّياض.
• فها هوَ (العبْدُ المسلمُ الصّادقُ الصَّائِمُ
الخائفُ الرَّاجي) يخرجُ منْ (صيامِ رمضانَ)، ويدخلُ في (صلاةِ العيدِ) خائفًا
راجيًا!
ولا يزالُ يدخلُ (في طاعةٍ) ويخرجُ منها إلىٰ
أخرىٰ؛ صادقًا خائفًا راجيًا!
فيقضي حياتَهُ إلى لحظاتِ خُروجِهِ منَ الدُّنيا
صادقًا خائفًا راجيًا!
اللهمّ! أدخلْنِي مُدْخَلَ صِدقٍ وأخرِجْني
مُخرجَ صِدقٍ واجعَلْ لي مِنْ لدنكَ سُلطَانًا نصيرًا.
وصَلِّ اللَّهُمَّ علىٰ نبيِّنا محمَّدٍ وعلىٰ
آلِهِ وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا...
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
كتَبَتْهُ: حسَّانة بنت محمّد ناصر الدّين بن
نوحٍ الألبانيّ.
الجُمعة 2 رَمضَان 1436هـ