بسمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيم
الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ
اللهِ، أمَّا بعدُ:
فَمنَ الأخطاءِ التي يقعُ بها لِسانُ بعضُ
المبتَدِئين في تَعلُّمِ تِلَاوةِ القرآنِ الكريم، خطأُ (تَكْريرِ الرَّاء)، وهُنا
وعنْ هذا اللَّحْنِ جمعتُ هذِهِ الأقوالَ الوجيزة، راجيةً اللهَ أنْ تكونَ نافعة.
• قالَ الإمامُ ابنُ الجزريِّ -رحمَهُ اللهُ- في
منظومةِ: "المقدِّمة فيما يجبُ على قارئِ القُرآنِ أَنْ يَعْلَمَه"،
البيت رقم (43):
........................ وأَخْفِ تَكْرِيرًا إذَا تُشَدَّدُ
• جاءَ في "المنَح الفكريّة"،
لصاحبِهِ: مُلَّا علي القَاري -رحمَهُ اللهُ-:
"والمعْنى: إذَا كانَ الرَّاءُ مُشَدَّدًا؛
فَأخْفِ تَكْريرَها.
قالَ مكيٌّ: لا بدَّ في القراءةِ منْ (إخْفاءِ
التَّكريرِ)، وواجبٌ على القارئِ أنْ يُخْفِيَ (تكريرَ الرَّاءِ)؛ فمَتى أظْهَرهُ؛
فقدْ جعلَ منَ الحرْفِ المشَدَّدِ حروفًا! ومنَ الـمُخَفَّفِ حَرْفَيْنِ! فقولُهُ:
"إذَا تُشَدَّدُ"، ليسَ بقَيْدٍ؛ بلْ إمَّا على سبيلِ الِاهْتِمامِ والِاعْتِناءِ،
أو منْ: بابِ الحَذْفِ؛ للِاكتِفاءِ.
والحاصلُ: أنَّكَ إذَا قُلْتَ مثْلَ: {الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ}[الفاتحة: 1]، فلَا تَتْرُكْ لسانَكَ أنْ يَضْطربَ بالرَّاءِ، بلِ احْفَظْها
منْ مَخْرجِها؛ لئلَّا تكونَ لَافِظًا في موضعِ (الرَّاءِ الواحدةِ) بِـ (رَاءاتٍ مُتَعدِّدَة)!"
اهـ
• وفي "تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين"،
لعليّ الصَّفاقسيّ -رحمَهُ اللهُ-، (ص: 117):
"...ثُمَّ إنَّ التَّشديدَ بعضُهُ أبلغُ من
بعضٍ، ولذلكَ انقسَمَ إلى ثلاثةٍ: (أعْلى)، و(أدْنى) و(متوسِّطٌ بينهما).
فأعلاهُ: (تشديدُ الرَّاء)؛ فيجبُ إظهارُ التَّشديدِ
فيهِ؛ إظهارًا بيِّنًا؛ لِيتَمكَّنَ مِنْ (إخْفَاءِ التَّكريرِ) الَّذي فيهِ، وهوَ
في التَّشْديدِ أمكنُ منْ غيرِهِ.." اهـ
وفي موضعٍ آخر، (ص: 43-44)، قالَ عن (الرَّاء):
"ويقعُ الخطأُ فيها من أَوْجُهٍ؛ منها: ترُعيدُ
اللِّسانِ بها إذا شُدِّدَتْ في نحوِ {الرَّحْمنَ الرَّحيمَ} و{مِن رَّبي}
[الأنعام: 57، وغيرها]، حتَّى يصيرَ الحرفُ حَرْفَينِ، أو أحْرُفًا! بلِ المطلوبُ حبسُ
اللِّسانِ بها، وإخفاءُ تكريرِها، وهذا مذهبُ المحقِّقينَ؛ كـ(مكّيٍّ، والجعبريّ، وابن
الجزريّ).
قالَ الجعبريُّ: ومعْنى قولِهمْ: "مُكرَّرٌ":
أنَّ لها قبولُ التَّكريرِ؛ لَا أنّها مكرَّرَةٌ
بالفِعْلِ، فإِنَّهُ لحنٌ يجبُ التَّحفُّظُ منْهُ، وهذا كقولِهمْ لغيرِ الضَّاحكِ:
"إنسانٌ ضاحكٌ"؛ إذْ وَصْفُ الشَّيْءُ بالشَّيءِ أَعمُّ من أنْ يكونَ بالفعلِ
أو بالقوَّة، وطَريقُ السَّلامةِ من هذا التَّكريرِ: أنْ يلصِقَ اللَّافظُ بها ظهرَ
لسانِهِ عَلى حَنَكِهِ لصْقًا مُحْكمًا.انتهى بالمعنى.
وذهبَ ابْنُ شريحٍ في آخَرينَ: إنَّ (التَّكريرَ)
صفةٌ لازمةٌ لها، وهوَ مذهَبُ سيبَويهَ؛ لقَولِهِ: إذا تكلَّمْتَ بها خرجَتْ كأنَّها مضاعفةً، والصَّوابُ
الأوَّلُ، واللهُ أعلَمُ" اهـ
[طبعة دار الصّحابة للتُّراث، بطنطا].
• في "هداية القاري إلى تجويد كلام الباري"،
لعبد الفتّاح المرصفيّ -رحمَهُ اللهُ-، (1/ 88):
"الصِّفةُ الخامسةُ: (التّكرير)
وهوَ في اللُّغةِ: إعادةُ الشَّيءِ، وأقلُّهُ: مرَّةً.
وفي الِاصْطلاح: ارتعادُ طرفِ اللِّسانِ عنْدَ النُّطْقِ
بالحَرْف.
ولهُ حرفٌ واحدٌ، وهوَ: (الرَّاء).
وسُمِّيَ بذلكَ؛ لِارتِعاِد طَرَف اللِّسانِ عندَ
النُّطْقِ به.
ومعْنى وَصْفُ الرَّاءِ بـ (التَّكريرِ)؛ أنَّها
قابلةٌ له.
وليسَ المرادُ منهُ الإتيانُ بهِ! كما هُوَ ظاهرٌ،
وإنَّما المرادُ بهِ: التَّحرُّزُ منهُ، واجتنابُهُ، وخاصَّةً إذا كانتِ الرَّاءُ (مشَدَّدةً)،
فالواجبُ على القارىءِ -حينئذٍ- إخفاءُ هذا التَّكريرِ؛ لأنَّهُ متى أظهرَهُ فقدْ جعلَ
من الرَّاءِ المشَدَّدَةِ (راءاتٍ)! ومنَ الـمُخَفَّفَةِ (رَاءَين)!
والتَّكريرُ في (المشَدَّدةِ) أحوجُ إلى الإخفاءِ
منَ التَّكريرِ في (الـمُخَفَّفَةِ).
ولهذَا أمرَ الحافظُ (ابنُ الجزريِّ) في "المقدِّمة"
بإخفاءِ تكريرِ المشدَّدِ، بقوله :
........................ وأَخْفِ تَكْرِيرًا إذَا تُشَدَّدُ
وخُلَاصَةُ القَولِ: أنَّ الغَرضَ من معرفةِ (صفةِ
التَّكريرِ للرَّاءِ): تركُ العملِ بهِ، عكسَ ما تقدَّمَ في الصِّفاتِ، وما هوَ آتٍ
بعدُ، إذِ الغرضُ منها العملُ بمُقْتَضاها.
وطريقةُ (إخْفَاءِ التَّكريرِ في الرَّاءِ) -كما
قالَ الجعبريّ- إنَّهُ يلْصِقُ اللَّافِظُ ظهرَ لسانِهِ بأعْلى حَنَكِهِ لصْقًا مُحْكمًا
مرَّةً واحدةً، بحيثُ لَا يرتَعِدُ؛ لأَنَّهُ متى ارْتَعَدَ حَدَثَ مِنْ كُلِّ مَرَّةٍ
رَاءً" اهـ بتصرُّفٍ من "النّجوم الطّوالع" اهـ
• وأختمُ من "النّشر في القِراءات العَشْر"،
للنّاظمِ نفسِهِ الإمامِ ابنِ الجزريّ -رحمَهُ اللهُ- حيث قالَ، في (1/ 204):
"...فَتَكْرِيرُهَا: رُبُوُّهَا فِي اللَّفْظِ
وَإِعَادَتُهَا بَعْدَ قَطْعِهَا
وَيَتَحَفَّظُونَ مِنْ إِظْهَارِ تَكْرِيرِهَا،
خُصُوصًا إِذَا شُدِّدَتْ، وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ عَيْبًا فِي الْقِرَاءَةِ! وَبِذَلِكَ
قَرَأْنَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ قَرَأْنَا عَلَيْهِ وَبِهِ نَأْخُذُ" اهـ
وقالَ في موضع آخرَ، (1/ 218- 219):
"...وَقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ
حَقِيقَةَ التَّكْرِيرِ: تَرْعِيدُ اللِّسَانِ بِهَا الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ؛
فَأُظْهِرَ ذَلِكَ حَالَ تَشْدِيدِهَا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْأَنْدَلُسِيِّينَ،
وَالصَّوَابُ: التَّحَفُّظُ مِنْ ذَلِكَ، بِإِخْفَاءِ تَكْرِيرِهَا، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ
الْمُحَقِّقِينَ.
وَقَدْ يُبَالِغُ قَوْمٌ فِي إِخْفَاءِ تَكْرِيرِهَا
مُشَدَّدَةً، فَيَأْتِي بِهَا مُحَصْرَمَةً شَبِيهَةً بِالطَّاءِ، وَذَلِكَ خَطَأٌ
لَا يَجُوزُ، فَيَجِبُ أَنْ يَلْفِظَ بِهَا مُشَدَّدَةً تَشْدِيدًا يَنْبُو بِهَا اللِّسَانُ
(نَبْوَةً وَاحِدَةً) وَ(ارْتِفَاعًا وَاحِدًا) مِنْ غَيْرِ مُبَالَغَةٍ فِي الْحَصْرِ
وَالْعُسْرِ، نَحْوَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" اهـ
[ط المطبعة التّجاريّة الكبرى].
واللهُ تعالى أعلم.
سبحانَكَ لَا عِلْمَ لنا إلَّا ما علَّمْتَنا
إنَّكَ أنتَ العليمُ الحكيم.
وصَلِّ اللَّهُمَّ على نبيِّنا مُحمَّدٍ وعلى آلِهِ وسَلِّمْ.
- - -
الخميس 12 شهر اللهِ المحرَّم 1438هـ