دَعْوَةُ (القُوَّامِ) إِلَـى (إِطَالَةِ القِيَامِ)!



دَعْوَةُ (القُوَّامِ) إِلَـى (إِطَالَةِ القِيَامِ)!
بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم...
إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ
من يهدِهِ اللهُ فلَا مضلَّ لهُ ، ومن يُضللْ فلَا هاديَ لهُ
وأشهدُ أنْ لَا إلَٰهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ وأنَّ محمَّدًا عبْدُهُ ورسولُهُ
أمَّا بعدُ...
فمقالي هذا؛ لا الضّعفاءَ أعني بهِ، ولا المرضى، ولا ذَوي الأعذار!..
إنَّما أعني: أُولِي العافيةِ في العُقولِ، وفي الأبدان!
الذين أَخْلَدُوا إلى (العجْزِ)، فَرَضُوا بِـ(الحِرْمَانِ)، فتثَاقَلُوا عَنْ (إطَالَةِ القيامِ)!
لنغتنمَ -جميعًا- ما تبَقَّى من ليالي (رمضان)!
سائلةً اللهَ -عز وجلَّ- أن ينفعَني والقرّاءَ بهِ!
فإلى المقصودِ:

أ- رَغَائب!
1) (طولُ القيامِ) أفضلُ الصّلَاةِ!
- عَن عبدِ الله بنِ حُبَشيٍّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ:
 أَيُّ الأعمالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((طُولُ الْقِيَامِ))!
"سنن أبي داود"، رقم: (1325). قال عنه الوالدُ -رحمهُ اللهُ- "صحيح بلفظ: ((أيُّ الصّلاةِ؟))" اهـ‍
- وفي روايةٍ عند مسلم:
عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((أَفْضَلُ الصَّلَاةِ: طُولُ الْقُنُوتِ))!
- جاء في "مقاييس اللغة": (5/ 31):
"وَقِيلَ لِطُولِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ: قُنُوتٌ" اهـ‍

2) (طولُ القيامِ)؛ اتبّاعٌ لأثرِ النّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ!
عَنِ الْمُغِيرَةَ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ!
 فَقِيلَ لَهُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا؛ وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكِ وَمَا تَأَخَّرَ؟!
 قَالَ: ((أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا))!
[متّفقٌ عليه]

3) (طولُ القيامِ)  مطيّةُ الفوز بـ ((عبدًا شكورًا))، وطريقٌ آخرُ للعبادةِ!
جاء في "فتح الباري"، للحافظ ابن حجر، (4/ 110)، في شرح: ((أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا)):
"قَالَ ابْن بَطَّال : فِي هَذَا الْحَدِيث أَخَذَ الْإِنْسَان عَلَى نَفْسه بِالشِّدَّةِ فِي الْعِبَادَة وَإِنْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِبَدَنِهِ! لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ مَعَ عِلْمهِ بِمَا سَبَقَ لَهُ، فَكَيْف بِمَنْ لَمْ يَعْلَم بِذَلِكَ؛ فَضْلًا عَمَّنْ لَمْ يَأْمَن أَنَّهُ اِسْتَحَقَّ النَّار! اِنْتَهَى.
وَمَحَلّ ذَلِكَ مَا إِذَا لَمْ يُفْضِ إِلَى الْمَلَال...
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَنَّ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ سَبَب تَحَمُّلهِ الْمَشَقَّةَ فِي الْعِبَادَة أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْبُدُ اللَّهَ خَوْفًا مِنْ الذُّنُوب، وَطَلَبًا لِلْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَة؛ فَمَنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ غُفِرَ لَهُ لَا يَحْتَاج إِلَى ذَلِكَ؛ فَأَفَادَهُمْ أَنَّ هُنَاكَ طَرِيقًا آخَر لِلْعِبَادَةِ وَهُوَ (الشُّكْرُ) عَلَى الْمَغْفِرَة وَإِيصَالِ النِّعْمَة لِمَنْ لَا يَسْتَحِقّ عَلَيْهِ فِيهَا شَيْئًا، فَيَتَعَيَّن كَثْرَةُ الشُّكْرِ عَلَى ذَلِكَ، وَالشُّكْر الِاعْتِرَاف بِالنِّعْمَةِ وَالْقِيَام بِالْخِدْمَةِ، فَمَنْ كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ سُمِّيَ (شَكُورًا)! وَمِنْ ثَمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ: 13]." اهـ مختصرًا.

4) (طولُ القيامِ) مع ركبِ سلَفِنا الصّالحِ!
- عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ؛ أَنَّهُ قَالَ:
"أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَتَمِيمًا الدَّاريِّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً.
قَالَ: وَقَدْ كَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ! حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ (طُولِ الْقِيَامِ)! وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلاَّ فِي فُرُوعِ الْفَجْرِ!".
قالَ الوالدُ عن إسنادهِ: "وهذا إسناد صحيح جدًّا". "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل"، تحت الحديث (446).
- وقالَ الوالدُ -رحمةُ الله عليه- في آخر كتابه: "صلاة التراويح"*،  (ص: 113-114):
" وقد عَلِمْتَ -ممَّا سبقَ في هذه الرِّسالةِ شيئًا طيِّبًا؛ بهِ من صفةِ صلاتِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في (قيامِ رمضانَ) من حيثُ:
- إحسانُ الصلاةِ فيهِ، وإطالتها! مثلُ قولِ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها:
(يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ! ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ)!
وقولها: (يَمْكُثُ فِي سُجُودِهِ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً)!
وقول حذيفة: (ثمَ قَرأَ البَقَرةَ -يعني في الرَّكعةِ الأولى- ثُمَّ رَكَعَ فَكَانَ رُكُوعُهُ مِثْلَ قِيَامِهِ)!، ثم ذكرّ القيامَ بعدَ الرُّكوعِ والسُّجودِ نحو ذلك.
 وعلمتَ -أيضًا- أن السَّلفَ في عهدِ عمرَ رضَيَ اللهُ عنهُ، كانوا يطيلونَ القراءةَ في صلاةِ التَّراويحِ؛ فيقرؤونَ فيها نحوَ الثلاثمائةِ آيةً! حتى كانوا يعتمدونَ على العصيِّ من (طول القيامِ)! وما كانوا ينصرفونَ من الصَّلاةِ إلَّا مع الفجرِ! فهذا يجبُ أن يكون حافزًا لنا جميعًا على أن نقتربَ في صلاتِنا للتَّراويحِ من صلاتِهمْ لها قدْر الطَّاقةِ! فلْنُطِلِ القراءةَ فيها، ونكثرْ من التَّسبيحِ والذِّكرِ في الرُّكوعِ والسُّجودِ وما بين ذلكَ؛ حتى نشعرَ ولو بشيءٍ من الخشوعِ الذي هوَ (روحُ الصَّلاةِ ولبُّها)! هذا (الخشوعُ) الذي أضاعَهُ كثيرٌ من المصلِّينَ لهذهِ الصَّلاةِ؛ لحرصِهِمْ على أدائِها بعددِ العشرينَ -المزعومِ عن عمرَ!- دونَ عنايةٍ بالاطمئنانِ فيها! بل ينقرونَها نقرَ الديكةِ؛ وكأنهم دواليبَ وآلاتٌ صاعدةٌ هابطةٌ بصورةٍ آليَّةٍ لا يمكِّنُهُمْ ذلكَ من التَّدبرِ فيما يسمعونَه من كلامِ اللهِ -تبارك وتعالى- بل يصعُبُ على الإنسانِ متابعتُهُمْ إلا بشقِّ الأنفسِ!" اهـ‍
* ط1 للطّبعة الشّرعيّة الوحيدة، (1421هـ‍)، مكتبة المعارف.
••
ب- شَوقٌ ووَهْمٌ!
هناكَ مَنْ يصلِّي من اللّيلِ، وتوَّاقةٌ نفسُهُ (لطولِ القيامِ) وجوارِحُهُ!
ومع ذلكَ لا يُطيلُ!
لأنَّ ثمَّةَ (وهمٌ) قطعَ السّبيلَ! فحَرَمَ من ذاكَ السّلسبيلِ!
ألا وهو: "طول القيامِ يتعبُ الجسدَ والأقدامَ"!
وعليهِ أحجمَتِ النّفسُ عنِ الإقدامِ!
وهنا، لا بدَّ من:
1- تذكُّرِ فضلِ الإطالةِ!
والنّفسُ عندما تعلمُ بذاكَ الفضلِ -والذي سبقَ طرفٌ منه- يجدر بها أن تبادرَ وتسارعَ!
قالَ الوالدُ -رحمهُ اللهُ- في "أصلِ صفةِ صلاة النَّبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، (1/ 398-399)
"وأنَّه كانَ يقولُ: ((أفضَلُ الصَّلاةِ: طولُ القيامِ))؛ فهذا نصٌّ صريحٌ في أنَّ الصَّلاةَ كلَّما كانَ قيامُها أطولَ -وإنما يكونُ ذلكَ بطولِ القراءةِ، وبضمِّ السُّورةِ إلى الأخرى-؛ كانتْ أفضلَ عندَ اللهِ تعالى!" اهـ‍

2- العزمُ والمضيّ في الخطوةِ الأولى (إطالةِ الرّكعة الأولى)!...
فلمَّا يذوقُ القلبُ حلاوةَ إطالةِ الرّكعة الأولى؛ فلا غرابةَ بعد ذاك أن يكونَ حالُ (الجوارحِ) في باقي الرّكعاتِ: "هل من مزيد؟"!

3- ربما يبدأ (ألمُ الأعضاءِ) مع (طولِ القيامِ)! لكنْ ما يلبثُ شيئًا فشيئًا أن يُتناسَى، ويَتلاشى معهُ ذيّاكَ (الوهمُ)! إذ يأتي (طولُ القراءةِ) المرافقِ (لطولِ القيام)، مع تدبّرِ القلبِ لمعاني (الآيات الكريماتِ) وانتقالِهِ من معنًى إلى آخرَ؛ ومن سورةٍ إلى آخرى، ومن تعظيمٍ للخالقِ في الرّكوعِ وتسبيحٍ! إلى سجودٍ يقتربُ فيه العبدُ من ربِّهِ!  فيتضرَّعُ إليهِ ويتذلَّل! ويبثُّهُ شكواهُ وما بهِ من همومٍ لم يعد ظهرهُ لها يتحمَّل! إلى تشهُّدٍ يُوحِّدُ اللهَ فيه، ويَدعو بما شاءَ، فتأتي كلُّ تلك (العباداتِ) شاغلًا -ونعمَ الشاغلِ!-، وصارفًا -ونعمَ الصَّارفِ!- عمَّا جرى (للأقدامِ) ومخفِّفًا! وإذ بـ (القلبِ) يرتاحُ معَ (تطويلِ المناجاةِ) ويسَعَدُ! و تسطعُ فيه من ضياءِ الشَّوقِ (لطولِ القيامِ) مشارقُ ومشارقُّ!

4-  كمْ وقفتْ هذه الأقدامُ لأجلِ (الدّنيا)!
أمَا آنَ لها أن تطيلَ الوقوفَ لأجلِ خالقِها (العظيمِ الجبّارِ)!!
وكمْ بذلَ هذا الجسمُ لأجلِ (الدّنيا)!
آمَا آنَ لصاحبِهِ أن يُسخِّرَه للهِ! فيطيلَ صلاتَهُ بين يدي ربِّهِ الكريمِ المنَّانِ!
فيجدُ (طولَ قيامِهِ) ذُخرًا لهُ في الآخرةِ!

5- (طولُ القيامِ) ، ليسَ (أرجلٌ وقفتْ)!
ولا أجسادٌ -بنفسِها- انتصبَتْ!
إنهُ محضُ إعانةٍ من ربِّ العالمين!
فهلَّا سألناهُ ذلكَ؟!
هلْ أريناهُ من أنفسنَا شوقًا وحبًّا لإطالةِ الوقوفِ بين يديهِ؟ -سبحانهُ!-.
هلْ صدقناهُ (المحبّةَ)، ومن أحبَّ أطالَ!

6- (طولُ القيامِ) ، ما أشدَّ الحسرةَ عند فواتِهِ!
فَسَلِ المشافي!
وسلِ المرضى!
عندما (الرُّكبُ) تخشوشن!
ويدخلُ (عظامَ الأقدامِ) الوهنُ!
عندَها! يا ليتني (قوّتي) اغتنمتُ! فيا ليتني (القيامَ أطلتُ)!
لأنعُمَ بلذَّةِ الوقوفِ بين يدي ملكِ وقيّامِ وربِّ وإلهِ السّمواتِ والأرضِ!
وأكون عبدًا شكورًا!.. مقتديًا به عليهِ الصّلاةُ والسّلام، قدرَ وسعِ النّفس!
فنسألكَ اللهمَّ العونَ على الظّفرِ بهذا النّعيم!
فلا نُحرمُ منهُ إلى أن تتوفَّانا يا ربَّ العالمين!

• وختامٌ بقولِهِ تعالى:
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشّعراء: 217-220]
والحمدُ لله ربِّ العالمين.
- - -
كتبتْهُ: حَسَّانَة بنت محمّد ناصر الدّين بن نوح الألبانيّ.
الثّلاثاء 17 رمضان / 1435هـ‍