"صِفَةُ الْأَبْرَارِ، عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ الْجَبَّارِ"!... للْحَافِظِ ابْنِ كَثيرٍ



بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيم
"صِفَةُ الأَبْرَارِ، عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ الجَبَّارِ"!... للْحَافِظِ ابْنِ كَثيرٍ

قالَ ربُّنا -تباركَ وتعالى- في سورةِ "الزُّمَر":
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)}.

قالَ الإمامُ ابنُ كثيرٍ -رحمَهُ اللهُ- في تفسيرِهِ: "تفسير القرآن العظيم"**:
"...هَذِهِ صِفَةُ (الْأَبْرَارِ)، عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ (الجَبَّارِ الْمُهَيْمِنِ العَزِيزِ الغَفَّارِ)!
لِمَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَالتَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ!
تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُهُمْ مِنَ الْخَشْيَةِ وَالْخَوْفِ!
{ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} لِمَا يَرْجُونَ ويُؤمِّلون مِنْ رَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ!

فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِغَيْرِهِمْ مِنَ (الْكُفَّارِ ) مِنْ وُجُوهٍ:
- (أَحَدُهَا): أَنَّ سَمَاعَ هَؤُلَاءِ هُوَ تِلَاوَةُ الْآيَاتِ، وَسَمَاعُ أُولَئِكَ نَغَمات لِأَبْيَاتٍ، مِنْ أَصْوَاتِ القَيْنَات!
- (الثَّانِي): أَنَّهُمْ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ؛ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيَّا! بِأَدَبٍ، وَخَشْيَةٍ، وَرَجَاءٍ، وَمَحَبَّةٍ، وَفَهْمٍ وَعِلْمٍ!
قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الْفُرْقَانِ:73] أَيْ: لَمْ يَكُونُوا عِنْدَ سَمَاعِهَا مُتَشَاغِلِينَ لَاهِينَ عَنْهَا، بَلْ مُصْغِينَ إِلَيْهَا، فَاهِمِينَ بَصِيرِينَ بِمَعَانِيهَا؛ فَلِهَذَا إِنَّمَا يَعْمَلُونَ بِهَا، وَيَسْجُدُونَ عِنْدَهَا عَنْ (بَصِيرَةٍ)؛ لَا عَنْ جَهْلٍ وَمُتَابَعَةٍ لِغَيْرِهِمْ...
-(الثَّالِثُ): أَنَّهُمْ يَلْزَمُونَ (الْأَدَبَ) عِنْدَ سَمَاعِهَا! كَمَا كَانَ (الصَّحَابَةُ)، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عِنْدَ سَمَاعِهِمْ (كَلَامَ اللَّهِ) مِنْ (تِلَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):
- تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ!
- ثُمَّ تَلِينُ مَعَ قُلُوبِهِمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ!
لَمْ يَكُونُوا يتصارخُون وَلَا يَتَكَلَّفُونَ مَا لَيْسَ فِيهِمْ!
بَلْ عِنْدَهُمْ مِنَ (الثَّبَاتِ وَالسُّكُونِ وَالْأَدَبِ وَالْخَشْيَةِ) مَا لَا يَلْحَقُهُمْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ!
وَلِهَذَا فَازُوا بِالقِدح المُعَلَّى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ!

تَلَا قَتَادَةُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} 
قَالَ: هَذَا نَعْتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ! نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ:
- تَقْشَعِرَّ جُلُودُهُمْ!
- وَتَبْكِيَ أَعْيُنُهُمْ!
- وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ!
وَلَمْ يَنْعَتْهُمْ بِذَهَابِ عُقُولِهِمْ وَالْغَشَيَانِ عَلَيْهِمْ!
إِنَّمَا هَذَا فِي (أَهْلِ الْبِدَعِ)! وَهَذَا مِنَ (الشَّيْطَانِ)!" انتهى مختصَرًا.
** المجلّد الرَّابع، (7/  94-95)، ط2 (1432هـ‍)، دار طيبة للنّشر والتّوزيع، الرّياض.
- - -
الخميس 15 شهر الله المحرَّم 1437هـ‍