أَيُّهَا الكَاتِبُ!... لَا تَسْتَخِفَّنَّ عَقْلَ القَارِئِ!



أَيُّهَا الكَاتِبُ!... لَا تَسْتَخِفَّنَّ عَقْلَ القَارِئِ!

بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيم...
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسّلامُ علىٰ خاتَمِ الأنبياءِ والمرسلين، وبعدُ:
قالَ رَبُّنا -تباركَ وتعالى- في سورةِ "الأحزاب": {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً}[70].
جاءَ في "معجم مقاييس اللُّغة"، (3/ 66):
"(سَدَّ): السِّينُ وَالدَّالُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى رَدْمِ شَيْءٍ وَمُلَاءَمَتِهِ!
مِنْ ذَلِكَ: سَدَدْتُ الثُّلْمَةَ سَدًّا. وَكُلُّ حَاجِزٍ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ: (سَدٌّ).
وَمِنْ ذَلِكَ: السَّدِيدُ، ذُو السَّدَادِ؛ أَيِ: الِاسْتِقَامَةِ؛ كَأَنَّهُ لَا ثُلْمَةَ فِيهِ!" اهـ‍

ألَا وإنَّ منَ (المصَائبِ) التي يُبتلى بها (القارئُ)! ويتعكَّرُ بسبَبِها صَفُوُ نهارِهِ، وهدُوءُ لِيلِهِ؛ أنْ يقفَ على كلامٍ ليس فيهِ أدْنىٰ مسحةٍ من ذلكُمُ (السَّدادِ)! وأقلُّ ما يُقالُ فيهِ أنَّهُ (استخْفَافٌ بالعقُولِ)!
وما أكثرَهُ هذِهِ الأيَّام التي يصْدُقُ فيها قولُهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، والذي رواهُ البخاريُّ -رحمِهُ اللهُ- في "الأدب المفرد"، وصحَّحَهُ والدي -رحمَةُ اللهِ عليهِ-: ((بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: تَسْلِيمُ الْخَاصَّةِ، وَفُشُوُّ التِّجَارَةِ حَتَّى تُعِينَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى التِّجَارَةِ، وَقَطْعُ الْأَرْحَامِ، وَفُشُوُّ الْقَلَمِ، وَظُهُورُ الشَّهَادَةِ بِالزُّورِ، وكِتْمَانُ شَهَادَةِ الحَقِّ))! ["صحيح الأدب المفرد"، 801/1049]
حقًّا لقدْ (فَشَا القلَمُ)، من الرِّجالِ والنّساءِ والكبارِ والوِلْدانِ! ففشَتِ الكتابَةُ التي لَا يُشَمُّ منْ حُرُوفِها شيءٌ من رائحَةِ التّوفيقِ ولا الهُدَى ولَا السَّدَاد!
ولا تَنْضَبِطُ بـ (الكتابِ والسُّنَّةِ)؛ اللذَينِ هما نورٌ لقَلَمِ الكاتِبِ، ومِنْ دونهما لن يُبْصِرَ هو وقُرَّاؤُهُ مسالِكَ النَّفْعِ، ولَا سبيلَ الرَّشاد!

فترى كاتبًا يكتبُ موضوعًا موبُوءًا -من رأسِهِ لأخمصِ قدميهِ- بـ (الشُّبهاتِ)!
وآخرُ يكتبُ موضوعًا سطورُهُ ساقطةٌ في الوحلِ؛ نظرًا لمَا لطَّخَهُ من دواعِي (الشَّهواتِ)!
وثالثٌ؛ يكتبُ موضوعًا؛ لا تدْرِكُ من وراءِ سطورِهِ إلَّا أنَّهُ يريدُ نشرَ (الشَّرِّ)؛ ليسَ إلَّا!
ورابعٌ؛ كأَنَّهُ مُتَخَصِّصٌ بكتابَةِ الشّائعاتِ الباطلاتِ المؤتفِكاتِ!
وخامسٌ؛ يكتبُ كلامًا للتَّرفيهِ عن القرَّاءِ، وليس في طيَّاتِ هذا التَّرفيهِ إلَّا (تضْيِيعَ الأوقاتِ) و(السَّخَافَاتِ) و(السَّفاهَاتِ) التي تدلُّ أشدَّ الدَّلالةِ على (عقلِ كاتِبِهِ ونَفْسِيَّتِهِ)!
يكتبونَ ويظنُّونَ أنَّ كلَّ ما يُكتبُ سينطِلي على القرَّاءِ؛ أَجْمعِين أَكْتعِينَ أَبْصَعِينَ أَبْتَعِين!
وغَفِلُوا عَنْ أنَّ ثمَّةَ قرَّاءَ ألِبَّاءَ؛ قَدْ وفَّقَهُمُ اللهُ بتوفيقِهِ؛ فهُمْ وإنِ ابْتُلُوا ببلاءِ قراءَةِ موضوعِهِ لسببِ أو لآخَرِ؛ إلَّا أَنَّ اللهَ (الحفيظَ)؛ حَفِظَهُمْ فعصَمَهُمْ من وقوعِ (عُقُولِهِمْ) في شباكِهِ الواهنةِ! بل وكانوا سبَبًا في تحذيرِ غيرِهمْ منهُ!

أمَّا الذين أوقعْوتموهُمْ في تلكَ الشِّباكِ؛ لجهلِهمْ، أو لبعدِهمْ عن دينِ اللهِ -عزّ وجلَّ- فاحْذَرُوا أيُّها الكتَّابُ! مِنْ حَمْلِ ثِقَلِ أوزارِ الذينَ ضلَّوا وضاعُوا وتميَّعُوا بسببِ مقالاتكُمْ، مع أوزاركُم؛ إنْ لم تتدارَكُوا قبلَ الغَرغَرةِ!
قالَ سُبحانَهُ في سورةِ "النَّحْلِ": {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ}[25]

أيًّها الكاتِبُ! إن كُنتَ ولا بدَّ كاتبًا؛ فارْقَ (بقرَّائِكِ) إلى قِمَمِ معالي الأمورِ؛ فإنَّهُم -لعمْرُ اللهِ!- أمانةٌ تنوءُ عنها البُحُور!..
واملأْ سطورَ (قلبِكِ) و(مقالِكِ) و(عقولَ قُرَّائِكَ) بما يكون لكَ بِهِ حُجَّةٌ تُنْجيكَ لـمَّا تقفُ بين يديِ اللهِ يومَ القيامةِ! وقدْ قالَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- في سورةِ "الصَّافَّات": {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}[24]
تاللهِ! لن ينفَعَكَ إن زلَّ قارئٌ بسببِ أفكارِكِ -المسطورةِ- يوم القيامةِ!
فكنْ أنتَ وقَلَمُكَ للقُرَّاءِ مصباحًا وصلَاحًا!
وإلَّا؛ فتأمَّلْ قولَ الشَّاعرِ:
فدَعْ عَنْكَ الكتَابَةَ لَسْتَ منْهَا ** ولَوْ غَرّقْتَ ثوبَكَ في المدَادِ!

  وأخيرًا (أيُّها الكاتبُ)! فإنَّ أيَّ كلمةٍ تستخفُّ وتستهينُ من خلَالِها بعقلِ القارئِ؛ ففي واقِعِ الأمرِ أنَّكَ قدِ استخفَفْتَ واحتقرْتَ (عقْلَكَ ونَفْسَكَ أوَّلًا)! شئتَ أم أبيتَ...
ذاكَ أنَّكَ أنتَ القارئُ (الأوّلُ) لموضوعِك!
وكلُّ إناءٍ بما فيهِ يَنْضَح!
فانظُرْ!
أيَّ عِلْمِ علَّمْتَ؟
وأيَّ فقْهٍ فقَّهْتَ؟
وأيَّ معلُومَةٍ أفدتَّ؟
وأيَّ ترويحٍ -عن القرّاء- روّحْتَ!
قالَ الإمامُ ابنُ القيِّمِ -رحمَهُ اللهُ في نونيَّتِهِ: "الكافية الشَّافية"، البيت رقم (4125):
هَاتُوا جَوابًا للسُّؤَالِ وهيِّئُوا ** أيْضًا صَوابًا لِلْجَوابِ يَدَانِ!
وَإِنَّ هذا الموضوعَ ليَسَعُ أن أُلْحِقَ بِهِ: (النّاشِرَ) و(النّاقِلَ)، و(القائِلَ)!
أصلَحَنا اللهُ جميعًا ووفَّقنا لما يُحبُّهُ ويرضَاهُ...
سُبحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إلَّا ما علَّمْتَنا؛ إنَّكَ أنتَ العليمُ الحكيم.
وصلَّى اللهُ على نبيِّنا مُحَمَّدٍ وعلى آلِهِ وسَلَّم.
كتبَتْهُ: حَسَّانَةُ بنتُ محمّدٍ ناصِرِ الدّينِ بنِ نوحٍ الألبانيِّ
تاريخ: الخميس 1 شهر اللهِ الـمُحرَّم 1437هـ‍