((مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً))..هلْ في الإسلامِ (بدعةٌ حسنةٌ)!





 ((مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً))

ما سببُ وُرودِ هَٰذا الحديثِ؟

وهلْ في الإسلامِ (بدعةٌ حسنةٌ)!


بسمِ اللهِ الرَّحمَٰنِ الرّحيم...
منْ بعدِ حمدِهِ تعالىٰ، والصّلاةِ والسّلامِ علىٰ نبيِّنا محمّدٍ:
جاءَ في "صحيح مسلم"[1]، كتابِ الزّكاةِ، بَابُ الْحَثِّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، أَوْ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ وَأَنَّهَا حِجَابٌ مِنَ النَّارِ:
عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، قَالَ:
فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ
عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ؛ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ
فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ
فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ:
(({يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ:
{إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النّساء: 1]
وَالْآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ: 
{اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ}[الحشر: 18] 
((تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ))  
حَتَّى قَالَ: ((وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ))!
قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ!
قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، 
حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ، كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ!
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ!
وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ)).

ولأنّهُ يُحتجُّ بهَٰذا الحديثِ علىٰ جوازِ ما يُسمَّىٰ بـ (البدعة الحسنة)!
ولنَفهَمَ الرّوايةَ فهمًا ناصعَ البيانِ، وعلىٰ (البيضاءِ)! أسوقُ توجيهينِ مُـحْكَمَيْنِ لوالدِي -رحمهُ اللهُ تعالىٰ-.

قالَ في كتابِهِ"مختصر أحكام الجنائز"[2]:
"قلتُ: لِيتأمَّل القارئُ -الكريمُ- في سياقِ الحديثِ والمناسبةِ التي قالَهُ النَّبيُّ اللهِ صلَّىٰ اللهُ عليهِ وسلَّمَ فيها؛ يتبيَّنُ لَهُ أنَّ: 
الِاستِدْلَالَ بِهِ علىٰ (إثباتِ البدعةِ الحسنةِ) في الإسلامِ؛ أبعدُ ما يكونُ عنِ الصَّوابِ!
لأنَّهُ ليسَ في سياقِهِ ذكرٌ لبدعَةٍ وقَعَتْ فيهِ! 
فكيفَ يصحُّ تفسيرُ الحديثِ بقولِـهِمْ "منِ ابتدعَ في الإسلامِ بدْعَةً حسنةً"! كمَا يقولُ المبتدعةُ؟!! 
وهوَ صلَّىٰ اللهُ عليهِ وسلَّمَ إنَّـما قالَهُ بمناسبةِ مجيءِ الأنصاريِّ بصدقَتِهِ قبْلَ غيرِهِ، ثُـمَّ تتَابَعَ النَّاسُ بصدقاتِـهِمْ مِنْ بَعْدِهِ؛ فكانَ لَهُ أجْرُ صَدَقَتِهِ، وأجْرُ صدقاتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ الذي كانَ (سنَّها وابتدأَهَا في ذَٰلكَ المجلسِ)! 
فالحديثُ في (الصَّدقَةِ المشروعةِ)، وليس في (البدعةِ المذمومةِ) ذمًّا عامًّا!
وبذَٰلِكَ يتبيَّنُ لكلِّ ذي عَيْنَينِ!!:
- أنَّ الحديثَ لا يعارِضُ قولَهُ صلَّىٰ اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((كُلُّ بدْعَةٍ ضَلالةٌ))!
- وأنَّهُ لَا يجوزُ أنْ نُخَصِّصَ بِهِ هَٰذِهِ الكُلِّيَّةَ التي كانَ صلَّىٰ اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُعَلِّمُها النَّاسَ في مجتمعاتِهِمْ، وبخاصَّةٍ في خُطْبةِ يومِ الجمعةِ!" اهـ‍

وتوجيهٌ آخرَ له -رحمهُ اللهُ- في كتابه "أحكام الجنائز":
"(تنبيهٌ)!
يَستدلُّ بعضُ (أهْلِ البدعِ) بقولِهِ صلَّىٰ اللهُ عليهِ وسلَّمَ في هَٰذا الحديثِ: 
((مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً))، 
علَىٰ تقسيمِهِمُ المزعومِ للبدعِ! وأنَّ منها (الحسنُ)، ومنها (السَّيِّءُ)!!
وهوَ استدلالٌ (فاسدٌ) علَىٰ تقسيمٍ (باطلٍ)! كما يلحظُهُ النَّاظِرُ في مناسبةِ ورودِ الحديثِ - حيثُ هُمْ يكتمونَـهَا ولا يذكرونَهَا!-.
إذِ الحديثُ في الحثِّ علَىٰ (إحياءِ السُّننِ)، لا في الحضِّ علَىٰ (إحْدَاثِ البدعِ)!
ووجهٌ آخرُ في الرَّدِّ؛ وهوَ:
أنَّنَا لو سلَّمْنا -جَدَلًا- بأنَّ (السُّنَّةَ) المذكورةَ في الحديثِ قصَدَ بِها (البِدعةَ)؛ فقدْ وُصفتِ الأُوْلىٰ بالـحُسْنِ، والأخرىٰ بالقُبْحِ! 
ومنَ المعلومِ -عندَ أهلْ السُّنَّةِ-  أنَّ (الـحُسْنَ) و(القُبْحَ) مردُّهُـمَا إلىٰ (الكتابِ السُّنَّةِ)؛ خلافًا للمعتزلةِ ومن شايَعَهُمْ، حيثُ يقولونَ بالتَّحْسين والتَّقبيحِ العقْلِيَّيْنِ!
فإذَا وُصِفَ فعْلٌ شرعيٌّ ما بـ (البدْعةِ الحسَنَةِ)، وجِيْءَ بالدَّليلِ التَّفصيليِّ علىٰ ذَٰلِكَ منَ (الكتابِ السُّنَّةِ)؛ فلَا خلافَ حينئذٍ في شرعيَّتِها، ويكونُ وصفُها بـ (البدعةِ) مِنْ بابِ (التَّسميةِ اللُّغويَّةِ) لَا غيرَ؛  كقولِ عمرَ رضيَ اللهُ عنْهُ: "نِعْمَتِ البدْعةُ هَٰذِهِ" عندِ إحياءِ قيامِ رمضانَ جماعةً، بعدَ أن كانَ النَّبيُّ صلَّىٰ اللهُ عليهِ وسلَّمَ قدْ سنَّها بفعلِهِ وقولِهِ.
وكذَٰلكَ يُقالُ في (السُّنَّةِ السَّيِّئةِ)؛ إذا فُسِّرتْ بـ (البدعةِ)؛ فإنَّـما تكونُ سيِّئَةً إذا قامَ (الدَّليلُ الشَّرعيُّ) علىٰ ذَٰلك!
وأنتَ ترىٰ- وللهِ الحمدُ- سقوطَ استدلالِ الـمُبتَدِعَةِ بِهَٰذا الحديثِ علىٰ الوجْهَينِ المذكورَينِ! واللهُ الموفِّقُ"[3]
انتهىٰ كلَامُ الوالدِ -رحمهُ اللهُ تعالىٰ-.
فاعتبرُوا يا أولي الأبصارِ!
~ ~ ~
الأربعاء: 7-ربيع الأوّل-1435هـ‍


[1] - طبعة بيت الأفكار الدّوليّة، (ص: 645)، الحديثُ رقم: 69 - (1017)
[2] - حاشية (ص: 78)، ط1 (1402هـ‍)، المكتبة الإسلاميّة- الدّار السّلفيّة.
[3] - حاشية (ص: 226)، ط1 (1421هـ‍)، مكتبة المعارف.