وقفةٌ عند قولِه تعالى: {لَن تَنَالُواْ
الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}
بسم اللهِ الرّحمن الرّحيم
الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسّلَامُ على
رسولِ اللهِ؛ أمَّا بعدُ:
• فقد قالَ ربُّنا -سُبحانه وتعالى- في
سورةِ "آلِ عمران":
{لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى
تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ
عَلِيمٌ (92)}
• قالَ الإمامُ الطّبريُّ -رحمِهُ اللهُ-
في تفسيرهِ: "جامع البيانِ عن تأويلِ آية القرآن"، (6/ 587):
"فتأويلُ الكلامِ: {لَن تَنَالُواْ}
-أيُّها المؤمنونَ- جنَّةَ ربِّكم
{حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}:
حتَّى تتَصدَّقوا ممَّا تحبُّون وتهوَوْنَ أنْ يكونَ لكُم، مِنْ نفيسِ أموالِكُم!"
اهـ
• مِنْ أحوالِنا الواقعة:
الإنفاقُ من أرْدَئِ ما عندَنا ممّا لَا تهواهُ أنفُسُنا! يعني بعكسِ ما وردَ في
الآيةِ الكريمةِ!
فلو أردْنا أن نتصدَّقَ بثوبٍ -مثلًا-؛
بحثْنا في خزانَتِنا ونقَّبْنا عن أردَئِ ثوبٍ وأتعَسِهِ وأبشَعِهِ وأقدَمِهِ،
ووضعناهُ في أسوءِ كيسٍ، وتصدَّقنا بهِ لوجْهِ اللهِ!
ولو أردْنا أن نتصدَّقَ بقطعةِ نقودِ
ورقيَّة، أخذْنا نتحسَّسُ في جيوبِنا ومحافِظِنا عنِ الممزّقَةِ والمهترئةِ،
وتصدَّقنا بها لوجْهِ اللهِ!
ولو أردْنا أن نتصدَّقَ بأوانٍ
منزليّةٍ، لَمَمْنا ما عندنا من صحونٍ مكسورةٍ، وأكوابٍ منقورةٍ، ومعالقَ صدِئة،
وصوانٍ انتهتْ موضتُها، ووضعناها في كرتونٍ بالٍ، وتصدَّقنا بها لوجْهِ اللهِ!
ولو أردْنا أن نتصدَّقَ بطعامٍ، جمعْنا
ما عافَتْهُ معْدَتُنا، وملَّتْ منهُ أنفسُنا، ومضى عليهِ أيَّامٌ، وتصدَّقنا به
لوجْهِ اللهِ!
وإذا جاءتٌ خادمٌ إلى بيتٍ؛ أُعطيتِ
القديمَ العتيقَ المعطوبَ، لوجْهِ اللهِ! وأُخفيَ عنها الجديدِ الجميل!
• من أمراضِ نفوسِنا: أنَّنا ننظرُ إلى
قدْرِ من نعطيهِ الصّدقة، وإلى قدْر المادَّةِ التي تصدَّقْنا بها، ولَا ننظرُ إلى
قدْرِ من تصدَّقْنا لوجْههِ الكريم!
• قالَ العلَّامةُ السّعديُّ -رحمَهُ
اللهُ- في تفسيره: "تيسير الكريم الرّحمن في تفسير كلَامِ المنَّان"،
(ص: 138):
"{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ
عَلِيمٌ} .
هذا حثٌّ منَ اللهِ لعبادِهِ على الإنفاقِ
في طرقِ الخيراتِ؛ فقالَ:
{لَنْ تَنَالُوا}؛ أي: تُدركوا وتبلُغوا
(البرَّ) الذي هو كلُّ خيرٍ من أنواعِ الطَّاعاتِ، وأنواعِ المثوباتِ الموصلِ
لصاحبِهِ إلى الجنَّة!
{حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
أيْ: من أموالِكُم النفيسةِ التي تحبُّها نفوسُكُم!
فإنَّكُم إذا قدَّمتُم (محبَّةِ اللهِ)
على (محبَّةِ الأموالِ) فبذلتُموها في مرضاتِه؛ دلَّ ذلكَ على إيمانِكُمُ الصَّادقُ،
وبرِّ قلوبِكِم، ويقينِ تقواكم، فيدخلُ في ذلك:
- إنفاقُ نفائسِ الأموالِ!
- والإنفاقُ في حالِ حاجةِ المنفقِ إلى
ما أنفقه!
- والإنفاقُ في حالِ الصِّحةِ!
ودلَّتِ الآيةُ أنَّ العبدَ بحسبِ إنفاقِهِ
(للمحبوباتِ)؛ يكونُ (برُّهُ)!
وأنَّهُ ينقُصُ من برِّهِ بحسبِ ما نقصَ
منْ ذلك!" اهـ
• عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ
أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،
يَقُولُ:
كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ،
كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ،
وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ
بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ،
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ.
قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ
هَذِهِ الآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
[آل عمران: 92]
قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ
وَتَعَالَى- يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]
وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ للهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ!
وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ للهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ!
فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ
أَرَاكَ اللهُ!
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((بَخٍ! ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ
مَالٌ رَابِحٌ،
وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي
أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ)).
فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا
رَسُولَ اللهِ.
فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ
وَبَنِي عَمِّهِ.
[حديثٌ متّفقٌ عليه]
وفي روايةٍ -عند مسلمٍ- وفي القصَّة
نفسِها، أنَّ أبا طلحةَ -رضيَ الله عنْهُ- قالَ لـمَّا نزلتْ تلكَ الآيةٌ الكريمةُ:
«أَرَى رَبَّنَا
يَسْأَلُنَا مِنْ أَمْوَالِنَا!
فَأُشْهِدُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَنِّي
قَدْ جَعَلْتُ أَرْضِي بَرِيحَا للهِ!».
• قالَ ابنُ عاشورَ -رحمَهُ اللهُ- في "التَّحرير والتَّنوير"،
(4/ 6):
"وَ(الْمَالُ الْمَحْبُوبُ) يَخْتَلِفُ
بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُتَصَدِّقِينَ، وَرَغَبَاتِهِمْ، وَسَعَةِ
ثَرَوَاتِهِمْ،
وَالْإِنْفَاقُ مِنْهُ أَيِ التَّصُدُّقُ؛ دَلِيلٌ عَلَى سَخَاءٍ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى!
وَالْإِنْفَاقُ مِنْهُ أَيِ التَّصُدُّقُ؛ دَلِيلٌ عَلَى سَخَاءٍ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى!
وَفِي ذَلِكَ تَزْكِيَةٌ لِلنَّفْسِ مِنْ بَقِيَّةِ
مَا فِيهَا مِنَ الشُّحِّ،
قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الْحَشْر: 9]
وَفِي ذَلِكَ صَلَاحٌ عَظِيمٌ لِلْأُمَّةِ؛ إِذْ
تَجُودُ أَغْنِيَاؤُهَا عَلَى فُقَرَائِهَا بِمَا تَطْمَحُ إِلَيْهِ نُفُوسُهُمْ
مِنْ نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ،
فَتَشْتَدُّ بِذَلِكَ أَوَاصِرُ الْأُخُوَّةِ،
وَيَهْنَأُ عَيْشُ الْجَمِيعِ" اهـ
• سؤالٌ يُطرحُ: والقديمُ
-عندنا- والذي لَا نُحبُّهُ، ماذا نفعلُ
به؟!
يقولُ العلَّامةُ السّعديّ -رحمهُ
اللهُ-:
"ولـمَّا كانَ الإنفاقُ على أيِّ
وجْهٍ؛ كانَ مثابًا عليهِ العبْدُ،
سواءٌ كانَ قليلًا أو كثيرًا،
محبوبًا للنَّفسِ، أم لَا
وكانَ قولُهُ: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ
حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} ممَّا يوهِمُ أنَّ إنفاقَ غيرِ هذا المقيَّدِ
غيرُ نافعٍ؛
احترزَ تعالى عن هذا الوهمِ بقولِه: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ
فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ}
فلا يضيِّقُ عليكُم، بل يثيبُكُم عليهِ
على حسبِ نيَّاتِكم ونفعِه" اهـ
• خاتمة: كانَ أحدُ
أسبابِ كتابتي لهذا الموضوعِ، أنَّني كنتُ أتدارسُ سورةَ (آلِ عمرانَ) مع إحدى
الأخواتِ اليمنيَّاتِ -حفظَها اللهُ-، فمرَّتْ في الصّفحةِ تلكَ الآيةُ الكريمةُ،
فأخبرتْني قائلةً -بما معناهُ-:
"عملًا بهذهِ الآيةِ الكريمةِ؛ تصدَّقْتُ بالثّوبِ الذي لبستُهُ يوم عُرسي"!
"عملًا بهذهِ الآيةِ الكريمةِ؛ تصدَّقْتُ بالثّوبِ الذي لبستُهُ يوم عُرسي"!
فجزاها اللهُ خيرًا، وتقبَّلَ منها.
ووقانا اللهُ شُحَّ أنفُسِنا، ووفَّقنا للإنفاقِ
ممَّا نُحبُّ، ونيلِ البرِّ.
وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى
آلِهِ وسلَّم.
كتبتْهُ: حسَّانَةُ بنتُ محمّدٍ ناصرِ
الدّين بن نوحٍ الألبانيّ.
الثّلاثاء 5 شوّال 1439هـ