الحكمةُ من تَقْدِيمِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} عَلَى {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لابنِ القيّمِ

بسم اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
الحكمةُ من تَقْدِيمِ
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} عَلَى {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
لابنِ القيّمِ -رحمهُ اللهُ تعالَى-
قالَ -رحمهُ اللهُ تعالى-:
"وَتَقْدِيمُ (العِبَادَةِ) عَلَى (الِاسْتِعَانَةِ) فِي {الفَاتِحَةِ} مِنْ بَابِ: 
 تَقْدِيمِ الغَايَاتِ عَلَى الوَسَائِلِ!
إِذِ (العِبَادَةُ) غَايَةُ العِبَادِ الَّتِي خُلِقُوا لَهَا،
وَ(الِاسْتِعَانَةُ) وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا، 
ولِأَنَّ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} مُتَعَلِّقٌ بِأُلُوهِيَّتِهِ وَاسْمِهِ (الله)!  
{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مُتَعَلِّقٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَاسْمِهِ (الرَّبّ)!
فَقَدَّمَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} عَلَى {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، كَمَا قَدَّمَ اسْمَ (اللهِ) عَلَى (الرَّبِّ) فِي أَوَّلِ السُّورَةِ!

وَلِأَنَّ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} قَسْمُ (الرَّبِّ)؛ فَكَانَ مِنَ الشَّطْرِ الْأَوَّلِ، الَّذِي هُوَ ثَنَاءٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى؛ لِكَونِهِ أَولَى بِه
وَ{إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَسْمُ الْعَبْدِ؛ فَكَانَ مِنَ الشَّطْرِ الَّذِي لَهُ، وَهُوَ:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.


وَلِأَنَّ (العِبَادَةَ) الـمُطْلَقَةَ تَتَضَمَّنُ (الِاسْتِعَانَةَ) مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، فَكُلُّ عَابِدٍ للهِ عُبُودِيَّةً تَامَّةً مُسْتَعِينٌ بِهِ وَلَا يَنْعَكِسُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَغْرَاضِ وَالشَّهَوَاتِ قَدْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى شَهَوَاتِهِ، فَكَانَتِ العِبَادَةُ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ، وَلِهَذَا كَانَتْ قَسْمَ (الرَّبِّ)!

وَلِأَنَّ (الِاسْتِعَانَةَ) جُزْءٌ مِنِ (العِبَادَةِ) مِنْ غَيْرٍ عَكْسٍ.


وَلِأَنَّ (الِاسْتِعَانَةَ) طَلَبٌ مِنْهُ، وَ(العِبَادَةَ) طَلَبٌ لَهُ.

وَلِأَنَّ (العِبَادَةَ) لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ مُخْلِصٍ،
    وَ(الِاسْتِعَانَةُ) تَكُونُ مِنْ مُخْلِصٍ وَمِنْ غَيرِ مُخْلِصٍ.


وَلِأَنَّ (الْعِبَادَةَ) حَقُّهُ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَيْكَ
وَ(الِاسْتِعَانَةُ) طَلَبُ الْعَوْنِ عَلَى (العِبَادَةِ)، وَهُوَ بَيَانُ صَدَقَتِهِ الَّتِي تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْكَ، وَأَدَاءُ حَقِّهِ أَهَمُّ مِنَ التَّعَرُّضِ لِصَدَقَتِهِ.


وَلِأَنَّ (العِبَادَةَ) شُكْرُ نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ، وَاللهُ يُحِبُّ أَنْ يُشْكَرَ،
   وَ(الْإِعَانَةُ) فِعْلُهُ بِكَ وَتَوْفِيقُهُ لَكَ.
فَإِذَا التَزَمْتَ عُبُودِيَّتَهُ، وَدَخَلْتَ تَحْتَ رِقِّهَا؛ أَعَانَكَ عَلَيْهَا، فَكَانَ التِزَامُهَا وَالدُّخُولُ تَحْتَ رِقِّهَا سَبَبًا لِنَيْلِ الْإِعَانَةِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَتَمَّ عُبُودِيَّةً ؛كَانَتِ الْإِعَانَةُ مِنَ اللهِ لَهُ أَعْظَمَ!
وَالعُبُودِيَّةُ مَحْفُوفَةٌ بِإِعَانَتَيْنِ:
1) إِعَانَةٍ قَبْلَهَا عَلَى التِزَامِهَا وَالقِيَامِ بِهَا،
2) وَإِعَانَةٍ بَعْدَهَا عَلَى عُبُودِيَّةٍ أُخْرَى،
وَهَكَذَا أَبَدًا، حَتَّى يَقْضِيَ الْعَبْدُ نَحْبَهُ!

وَلِأَنَّ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) لَهُ، وَ(إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بِهِ،
وَ(مَا لَهُ) مُقَدَّمٌ عَلَى (مَا بِهِ)، لِأَنَّ:
(مَا لَهُ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ،
وَ(مَا بِهِ) مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ،
وَمَا تَعَلَّقَ (بِمَحَبَّتِهِ) أَكْمَلُ مِمَّا تَعَلَّقَ بِمُجَرَّدِ (مَشِيئَتِهِ)،
فَإِنَّ الكَوْنَ كُلَّهُ مُتَعَلِّقٌ (بِمَشِيئَتِهِ)، وَالمَلَائِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ وَالـمؤْمِنُونَ وَالكُفَّارُ، وَالطَّاعَاتُ وَالمَعَاصِي،
وَالـمُتَعَلِّقُ (بِمَحَبَّتِهِ): طَاعَتُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ،
فَالكُفَّارُ أَهْلُ (مَشِيئَتِهِ)،
وَالـمُؤْمِنُونَ أَهْلُ (مَحَبَّتِهِ)،
وَلِهَذَا لَا يَسْتَقِرُّ فِي النَّارِ شَيْءٌ للهِ أَبَدًا!
وَكُلُّ مَا فِيهَا فَإِنَّهُ بِهِ تَعَالَى وَبِمَشِيئَتِهِ.
فَهَذِهِ الْأَسْرَارُ يَتَبَيَّنُ بِهَا: حِكْمَةُ تَقْدِيمِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} عَلَى {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.".
انتهى كلامُهُ -رحمهُ اللهُ تعالى-.
فأينَ نحنُ من تلكمُ الأسرارِ عندَ تلاوتنا لسورةِ (الفاتحةِ) في الصّلاةِ وخارجِهَا؟!.... نسألُه تعالَى من فضلِهِ.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
من كتاب: "مدارج السّالكينَ بين منازلِ: إيّاكَ نعبدُ وإيّاكَ نستعينُ"، تحتَ فصلِ: سرُّ الخلقِ والأمرِ والكتبِ والشّرائعِ.
الخميس/21/جمادى الأولى/1433هـ.