بَينَ الأُمْنِيَاتِ والحَقَائِقِ.. ابْتَلَاءٌ وَتَمْحِيصٌ!



بَينَ الأُمْنِيَاتِ والحَقَائِقِ.. ابْتَلَاءٌ وَتَمْحِيصٌ!

بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيم...
إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ
من يهدِهِ اللهُ فلَا مضلَّ لهُ، ومن يُضللْ فلَا هاديَ لهُ
وأشهدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهَ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ وأنَّ محمَّدًا عبْدُهُ ورسولُهُ أمَّا بعدُ...
فَإِنَّ اللهَ جَعلَ للإنسَانِ قلْبًا يَتمَنَّى ويشْتَهي ويحلُمُ ويَنْوِي الخيرَ والصَّلَاحَ، ولكنْ منَّا من إذَا تحقَّق لَهُ ما تمنَّى؛ كانَ واقعُ حالِهِ على نَقيضِ ما تمنَّاهُ!
• فترَى إحْداهُنَّ تَتمَنَّى أنْ يأتيَ يومُ زَفَافِها؛ لتُؤَسِّسَهُ على (الكتابِ والسُّنَّة)؛ بلا مخالفَاتٍ شَرْعيَّةٍ، فلمَّا يسَّرَ اللهُ لها ما تمَنَّتْ؛ إذْ بشَعْرها قدْ رَفَعَتْهُ (كأسنِمةِ البُختِ)، وإذ بثوبِ زفافِها ضيِّقٌ شفَّافٌ يُرضي -أيَّما رضًى- للموضة! وإذْ بالمدعُوَّاتِ لزفافِها منَ الكاسياتِ العارياتِ، وللحواجبِ نامصاتٍ! وإذْ بصُورِها وصُورِ زوجِها، تُعْرضُ أمامَ الحاضراتِ! وعندما تُنَاصحُ؛ تقولُ: "الزّوجُ يريدُ ذلك"!.. "إن لم أفعل ذلكَ لن أتزوَّج أبدًا"!
فأينَ (الحقيقةُ) منَ (الأمنيةِ)!


• وترَى إحْداهُنَّ تَتمَنَّى أنْ يهبَها اللهُ دوحةً غنَّاءَ؛ مِنْ زوجٍ صالحٍ تطيعُهُ، وأهلِ زوجٍ طيِّبينَ تُكرِمُهُمْ، وذريَّةٍ طيِّبةٍ تُربِّبيهِمْ تربيةً إسلاميَّةً؛ فلمّا وهبَها اللهُ جميعَ ما تمنَّتْ؛ بطرَتْ معيشتها، فازدرَتْ ما قدَّمَهُ لَهُ زوجُها من مكرُماتٍ، وعاملتْهُ وأهلَهُ بالحيلِ والكذبِاتِ، وقلَّةِ الِاحتِرامِ، والافتراءات! وسحبَتْ ذلِكَ إلى أطفالِها؛ فعمدَتْ إلى تنشِئَتِهِمْ على أن يُعامِلُوا النّاس بأسلوبِها نفْسِهِ!
فأينَ (الحقيقةُ) منَ (الأمنيةِ)!


• وترَى أحدَهُم، يتمَنَّى الزَّواجَ بالصَّالِحَةِ الطّيِّبَة المطيعةِ؛ لتُعينَهُ على آخِرَتِهِ؛ فلمَّا وفَّقَهُ اللهُ إليها، وظفرَ بها وحظَيَ؛ زهِدَ بمكانتِها بينَ نسَاءِ زمَانِها، وبدَأَ باستغلَالِ حُسْنِ تعامُلِها، وضعْفِها، وصمْتِها، وصَبْرِها؛ فاحتَقَرَ توجيهاتِها؛ وضاقَ صدرُهُ من نصائِحها، وسفَّهَ آراءَها المبنيَّةَ على (الكتابِ والسُّنَّة)!
فأينَ (الحقيقةُ) منَ (الأمنيةِ)!

• وترَى أحدَهُم، يتمنَّى أن يرزَقَهُ اللهُ مالًا؛ لِيُنفِقَهُ في الخَير، وفيما يُرضيهِ تعالى، فتارةً يحلُمُ أنَّهُ بنى مسجدًا كبيرًا، وتارةً أخرى يحلُمُ أنَّهُ تصدَّقَ بالآلافِ على الفقراءِ، فلمَّا ابتلاهُ ربُّهُ بالمالِ الوفيرِ؛ وصارَتِ النُّقودِ بين يديهِ وداخلَ أدراجِ خزانتِهِ؛ أخذَ يتصارعُ بين أمنياتِهِ وبُخْلِهِ، فينظرُ إليها مستخسرًا متحسِّرًا أن يُنفِقَها فيما كان قد تمنَّاهُ! فيكنِزُها، فلا زكاةٌ، ولا صدقاتٌ، ولا ذاكَ المسجدُ الذي في خيالِهِ بناهُ!
فأينَ (الحقيقةُ) منَ (الأمنيةِ)!

• وترَى أحدَهُم، ينوي إنْ علَّمَهُ اللهُ علْمًا شرعيًّا؛ أن ينفعَ النّاسَ بهِ، ويفيدَهُم بما يُقرِّبُهم إلى ربِّهم، ويأخذَ بأيديهِم ليُخرجَهُمْ -بعونِ اللهِ- من ظلماتِ الجهلِ إلى نورِ العلمِ، ومنَ الضَّلالِ إلى الهدى؛ وإذ به ما إنْ يتحصَّلُ على غايتِهِ ومطلوبِهِ؛ ويرتقي في درجاتِ العلمِ، وينهلُ من ينبوعِهِ؛ يستحسنُ ويبتدعُ ما لا يوافِقُ (الكتابَ والسُّنّةَ)، ويأخذُ من الآراءِ ما يوافقُ هواهُ، فيزِلُّ ويُزِلُّ، ويَضِلُّ ويُضِلُّ!
فأينَ (الحقيقةُ) منَ (الأمنيةِ)!

• وترَى أحدَهُم، ينوي إنْ شَفَاهُ اللهُ من مرضِهِ أن لا يَظْلِمَ ولا يؤذي، وأن يُكثِرَ من الطَّاعاتِ؛ فلمَّا منَّ اللهُ عليهِ بالعافيةِ والشّفاءِ وذهابِ ما كانَ به من بأسٍ، عادَ إلى لهوهِ وغفْلَتِهِ، وظُلمِهِ وجبرُوتِهِ وبطْشِهِ!
فأينَ (الحقيقةُ) منَ (الأمنيةِ)!

• وترَى أحدَهُم، يتمنَّى أن تعودَ إليهِ نِعْمَةٌ كانتْ قدْ ذهبَتْ من بين يديهِ بسبب بطَرِهِ، وينْوي أنْ يحرصَ عليها ولا يُفرِّطَ فيها كما فرَّطَ في سابقاتِها وجحدَ؛ فلمّا أتَتْهُ وبأكثَرَ ممَّا تمنَّى؛ عادَ إلى سيرَتِهِ الأولَى، فتبطَّرَ وتكبَّرَ!
فأينَ (الحقيقةُ) منَ (الأمنيةِ)!

• مَواقِفُ ومواقفُ يظنُّ المرءُ معَها أنَّهُ مُتَنَصِّلٌ من تبِعاتِها، وآثامِها! فيغْفَلُ عن أنها امتحانٌ لما في صدْرهِ، وتمحيصٌ لما قلبِهِ، وتصديقٌ لنيَّتِهِ! وقدْ قالَ سُبحانَهُ وتعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[آل عمران: 154].

• مواقفُ توقِفُنا على حقيقةِ أنفسنا بأنَّنَا لسنا بعيدينَ عن قصَّةِ (الأَبرَصِ، والأَقْرَعِ، والأَعْمَى)! -وإنِ اختلفَتْ بعضُ التّفاصيلِ والمرامي-، وأنَّ تلكَ القصَّةَ إنما كانتْ محضَ ابتلاءٍ، واختبارٍ، وجزاءٍ لأولئكَ الثّلاثةِ! وأنَّ ما يَأتينا من نِعَمِ اللهِ الكريمِ؛ إنما هوَ لنا -أيضًا- ابتلاءٌ واختبارٌ وتمييز، ومآلُهُ جزاءٌ!
قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} الآية. [الأنبياء: 35].
وقالَ سُبحانَهُ: {لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} الآية. [الأنفال: 37]
وقالَ جلَّ شأنُهُ: {فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} الآية. [الأنبياء: 80]
نرجُوه تباركَ تعالى أنْ يقِيَنا شرَّ أنْفُسِنا..
وأنْ لَا يكلَنا إلى أنفسِنا طرفةَ عينٍ..
وأن يوزِعنَا شُكْرَ نِعَمِهِ علينا، ويجنِّبنَا نُكْرَانَها وتبديلَها...
قالَ عزَّ وجلَ: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[البقرة: 211]
{رَبَّنا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الآية. [الأعراف: 23]
وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وسلَّم.
كتبتْهُ: حَسَّانَةُ بنتُ محمَّدٍ ناصرِ الدِّينِ بنِ نوحٍ الألبانيِّ.
الثّلاثاء 3 ربيع الثّاني 1437هـ‍