بسم الله الرّحمن الرّحيم...
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأنّ محمّدًا عبده ورسوله.
أمّا بعد:
فهذه صورة من صور زهد النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، في الدّنيا وزخارفها؛ أوردها عبر حديثين شريفين؛ وفي كلّ منهما فوائد عديدة؛ سائلة الله عزّ وجلّ أن يعيننا على الاقتداء به عليه الصّلاة والسّلام....
ـ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ:
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ فَوَجَدَ عَلَى بَابِهَا (سِتْرًا)؛ فَلَمْ يَدْخُلْ!
قَالَ: وَقَلَّمَا كَانَ يَدْخُلُ إِلَّا بَدَأَ بِهَا!
فَجَاءَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَآهَا مُهْتَمَّةً؛ فَقَالَ: مَا لَكِ؟!
قَالَتْ: جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ فَلَمْ يَدْخُلْ!
فَأَتَاهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ فَاطِمَةَ اشْتَدَّ عَلَيْهَا أَنَّكَ جِئْتَهَا فَلَمْ تَدْخُلْ عَلَيْهَا!
قَالَ:
((وَمَا أَنَا وَالدُّنْيَا! وَمَا أَنَا وَالرَّقْمَ!))
فَذَهَبَ إِلَى فَاطِمَةَ؛ فَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَتْ:
قُلْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَأْمُرُنِي بِهِ؟
قَالَ:
((قُلْ لَهَا فَلْتُرْسِلْ بِهِ إِلَى بَنِي فُلَانٍ)). (1)
جاء في شرح هذا الحديث:
[(فَرَآهَا مُهْتَمَّة): أَيْ ذَات هَمّ!
(وَمَا أَنَا وَالدُّنْيَا): أَيْ: لَيْسَ لِي أُلْفَة مَعَ الدُّنْيَا، وَلاَ لِلدُّنْيَا أُلْفَة وَمَحَبَّة مَعِي! حَتَّى أَرْغَب إِلَيْهَا، وَأَنْبَسِط عَلَيْهَا! أَوْ: اِسْتِفْهَامِيَّة؛ أَيْ: أَيّ أُلْفَة وَمَحَبَّة مَعَ الدُّنْيَا؟!
(وَمَا أَنَا وَالرَّقْم): بِفَتْحٍ فَسُكُون: النَّقْش وَالْوَشْي.
(مَا تَأْمُرنِي بِهِ): أَيْ لِذَلِكَ السِّتْر؛ أَيْ: مَا أَفْعَل بِهِ؟
(قَالَ): أَيْ رَسُول اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(قُلْ): أَيْ يَا عَلِيّ.
(لَهَا): أَيْ لِفَاطِمَة.
(فَلْتُرْسِلْ بِهِ إِلَى بَنِي فُلاَن): يَكُونُونَ فُقَرَاء وَذَوِي الْحَاجَة إِلَى لُبْسه.]. (2)
[قَالَ اَلْمُهَلَّب وَغَيْره: كَرِهَ اَلنَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاِبْنَتِهِ مَا كَرِهَ لِنَفْسِهِ مِنْ (تَعْجِيلِ) اَلطَّيِّبَاتِ فِي اَلدُّنْيَا؛ لاَ أَنَّ سَتْرَ اَلْبَاب حَرَامٌ. وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ لَهَا لَمَّا سَأَلَتْهُ خَادِمًا: ((أَلاَ أَدُلُّك عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ))؛ فَعَلَّمَهَا اَلذِّكْرَ عِنْدَ اَلنَّوْمِ]. (3)
وفي حديث آخر: عَنْ سَفِينَةَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ:
أَنَّ رَجُلاً أَضَافَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ؛ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا؛ فَقَالَتْ فَاطِمَةُ:
لَوْ دَعَوْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَأَكَلَ مَعَنَا!
فَدَعَوهُ؛ فَجَاءَ؛ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى عِضَادَتَيْ الْبَابِ؛
فَرَأَى الْقِرَامَ قَدْ ضُرِبَ بِهِ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ؛ فَرَجَعَ!
فَقَالَتْ فَاطِمَةُ لِعَلِيٍّ: الْحَقْهُ ؛ انْظُرْ مَا رَجَعَهُ؟!
فَتَبِعْتُهُ؛ وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا رَدَّكَ؟! فَقَالَ:
((إِنَّهُ لَيْسَ لِي ـ أَوْ لِنَبِيٍّ ـ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتًا مُزَوَّقًا))! (4)
وجاء في شرح هذا الحديث:
[(عَلَى عِضَادَتَيْ الْبَابِ): ـ بِكَسْرِ الْعَيْن ـ وَهُمَا: الْخَشَبَتَانِ الْمَنْصُوبَتَانِ عَلَى جَنْبَتَيْهِ.
(فَرَأَى الْقِرَام): ـ بِكَسْرِ الْقَاف ـ وَهُوَ: ثَوْب رَقِيق مِنْ صُوف فِيهِ أَلْوَان مِنْ الْعُهُون وَرُقُوم وَنُقُوش؛ يُتَّخَذ سِتْرًا يُغَشَّى بِهِ الأَقْمِشَة وَالْهَوَادِج. كَذَا فِي "الْمِرْقَاة".
وَفِي "الْمِصْبَاح": الْقِرَام: مِثْل كِتَاب السِّتْر الرَّقِيق، وَبَعْضهمْ يَزِيد وَفِيهِ رَقْم وَنُقُوش. اِنْتَهَى.
(قَدْ ضُرِب): أَيْ نُصِبَ.
(مَا أَرْجَعَهُ): كَذَا فِي النُّسَخ؛ مِنْ: أَرْجَعَ الشَّيْءَ رَجْعًا؛ أَيْ: مَا رَدَّهُ. وَفِي بَعْض النُّسَخ: مَا رَجَعَهُ؛ مِنْ: رَجَعَ رَجْعًا؛ أَيْ: صَرَفَ وَرَدَّ.
(فَتَبِعْته): اِلْتِفَات مِنْ الْغَيْبَة إِلَى التَّكَلُّم.
وَعِنْد أَحْمَد قَالَتْ فَاطِمَة فَتَبِعْته.
(فَقَالَ إِنَّهُ): أَيْ الشَّأْن.
(بَيْتًا مُزَوَّقًا): بِتَشْدِيدِ الْوَاو الْمَفْتُوحَة؛ أَيْ مُزَيَّنًا بِالنُّقُوشِ! وَأَصْل التَّزْوِيقِ: التَّمْوِيه.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَتَبِعَهُ اِبْن الْمَلَك: كَانَ ذَلِكَ مُزَيَّنًا مُنَقَّشًا.
وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ مُنَقَّشًا، وَلَكِنْ ضُرِبَ مِثْلُ حَجْلَةِ الْعَرُوسِ سُتِرَ بِهِ الْجِدَارُ، وَهُوَ رُعُونَة؛ يُشْبِهُ أَفْعَالَ الْجَبَابِرَة.
• وَفِيهِ تَصْرِيح بِأَنَّهُ لاَ يُجَاب دَعْوَةٌ فِيهَا مُنْكَرٌ، كَذَا فِي "الْمِرْقَاة".
• وَقَالَ الْحَافِظ فِي الْفَتْح: وَيُفْهَم مِنْ الْحَدِيث أَنَّ وُجُود الْمُنْكَر فِي الْبَيْت مَانِع عَنْ الدُّخُول فِيهِ.
• قَالَ اِبْن بَطَّال: فِيهِ أَنَّهُ لاَ يَجُوز الدُّخُول فِي الدَّعْوَة يَكُون فِيهَا مُنْكَر مِمَّا نَهَى اللهُ وَرَسُوله عَنْهُ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِظْهَار الرِّضَى بِهَا.
وَنُقِلَ مَذَاهِبُ الْقُدَمَاء فِي ذَلِكَ، وَحَاصِله:
• إِنْ كَانَ هُنَاكَ مُحَرَّمٌ وَقَدَرَ عَلَى إِزَالَته فَأَزَالَهُ فَلاَ بَأْس، وَإِنْ لَمْ يَقْدِر فَيَرْجِع.
• وَقَالَ صَاحبُ الْهِدَايَة مِنْ الْحَنَفِيَّة : لاَ بَأْس أَنْ يَقْعُد وَيَأْكُل إِذَا لَمْ يَكُنْ يُقْتَدَى بِهِ، فَإِنْ كَانَ وَلَمْ يَقْدِر عَلَى مَنْعهمْ فَلْيَخْرُجْ لِمَا فِيهِ مِنْ شَيْن الدِّين! وَفَتْح بَاب الْمَعْصِيَة!
قَالَ: وَهَذَا كُلّه بَعْد الْحُضُور، وَإِنْ عَلِمَ قَبْله لَمْ يَلْزَمهُ الإِجَابَة. اِنْتَهَى مُخْتَصَرًا.] (5)
فنرى ممّا سبق؛ أنّه عليه الصّلاة والسّلام، لم يكن يدخل البيت الّذي فيه شيء من النّقوش؛ فكيف بنا وحالنا التّنافس على نقش منازلنا: سقفها، وأرضها، وبأيدينا؟!
فطوبى لمن فقه قيمة الدّنيا...
وبِنَبيّه اقتدى.
والله تعالى أعلم.
:::::::::::::::::
(1) رواد أبو داود وغيره، وصحّحه الوالد ـ رحمه الله ـ. انظر: "سنن أبي داود"، رقم الحديث: (4149).
وفي رواية عند البخاري: ((قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ عَلَى بَابِهَا سِتْرًا مَوْشِيًّا؛ فَقَالَ: مَا لِي وَلِلدُّنْيَا)).
(2) "عون المعبود شرح سنن أبي داود"؛ باختصار.
(3) "فتح الباري بشرح صحيح البخاري"، باختصار.
(4) رواه أو داود وغيره، وقال عنه الوالد: حسن. انظر: صحيح سنن أبي داود؛ رقم الحديث: (3755). و:" سنن ابن ماجه: رقم الحديث: (3360)، والمشكاة: (3157).
(5) "عون المعبود شرح سنن أبي داود"؛ باختصار.
السبت/ 26/ شعبان/ 1431هـ