متابعةُ هدْيِ النّبيّ صلّى اللهُ عليْهِ وسلّمَ عند الإفطارِ
بسم الله الرّحمن الرّحيم...
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره...
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا...
من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له...
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّدًا عبده ورسوله.
أمّا بعد:
فإنّ في غروب الشّمس، والانتقال من: (عبادة الصّيام) إلى: (عبادة الإفطار) إلى: (عبادة إقامة صلاة المغرب)؛ لحظات ثمينة سريعًا ما تمرّ؛ ينهمك خلالها الصّائم بتناول إفطاره، وإرواء عطشه، وسدّ جوعه.
وهذا لا شكّ أنّه داخل في دائرة (العبادة)؛ إلاّ أنّ هناك أمرًا قد يغفل (الصّائم) عنه خلال أدائه لما سبق؛ ألا وهو:
(متابعة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم)!!
والّذي هو سبب من أسباب محبّة اللهِ للعبد.
ولذا؛ سأورد بعض النّقاط الّتي تتعلّق بمتابعته عليه الصّلاة والسّلام في لحظات الإفطار؛ راجية من الله الكريم القبول منّي، ومن جميع الصّائمين.
النّقطة الأولى:
متابعة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في (تحرّي) وقت الإفطار:
فعن سهل بن سعد رضي الله عنه؛ أنّه قال:
((كَانَ إِذَا كَانَ صَائمًا أَمَرَ رَجُلاً فَأَوْفَى عَلَى نشز[1]؛ فَإِذَا قَالَ: قَدْ غَابَتْ الشَّمْسُ أَفْطَرَ)).[2]
فيا أيّها الصّائم وأنت تتحرّى غروب الشّمس؛ وبالتّالي موعد الإفطار؛ احتسب في ذلك متابعته صلّى الله عليه وسلّم.
النّقطة الثّانية:
متابعة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في (التّعجيل) في الإفطار:
فعن أنس رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه؛ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
((لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ)).[4]
قال الوالد ـ رحمه الله تعالى ـ:
"وفي الحديث: اهتمامه صلّى الله عليه وسلم بالتّعجيل بالإفطار بعد أن يتأكد صلى الله عليه وسلم من غروب الشمس؛ فيأمر مَنْ يعلو مكانًا مرتفعًا؛ فيخبره بغروب الشّمس؛ ليفطر صلّى الله عليه وسلّم، و ما ذلك منه إلا
تحقيقًا منه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ)). متفق عليه، وهو مخرج في: "الإرواء" (917).
وإنّ من المؤسف حقًّا أنّنا نرى النّاس اليوم؛ قد خالفوا السُّنّة! فإنّ الكثيرين منهم يرون غروب الشّمس بأعينهم، و مع ذلك لا يفطرون حتى يسمعوا أذان البلد؛ جاهلين:
أوّلاً: أنّه لا يؤذن فيه على رؤية الغروب؛ وإنّما على التّوقيت الفلكي.
وثانيًا: أنّ البلد الواحد قد يختلف الغروب فيه من موضع إلى آخر؛ بسبب الجبال والوديان؛ فرأينا ناسًا لا يفطرون وقد رأوا الغروب! وآخرين يفطرون والشّمس بادية لم تغرب؛ لأنهم سمعوا الأذان! والله المستعان!". ا.هـ [5]
وأضيف على كلام والدي ـ رحمة الله عليه ـ:
أنّ تأخير البعض يكون ـ أحيانًا ـ بسبب التّفريط والتّهاون؛ فترى المرء نائمًا عن وقت الإفطار، أو مستيقظًا لا مباليًا؛ والمرأة لازالت تجري في المطبخ؛ وربّما لازالت تعدّ الطّعام؛ فإذا سمعوا الأذان فوجؤوا به وكأنّه البارحة لم يكن! فعلى كلّ من المسلم والمسلمة أن يرتّب أمور فطره مسبقًا؛ بحيث يكون على أهبة الاستعداد لتحقيق هذه السّنّة.
هذا وإنّ تعجيل الفطر ليس فيه (متابعة) للنّبي عليه الصّلاة والسّلام وحسب؛ بل فيه أيضًا (مخالفة) لأعداء الدّين!
"فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
((لاَ يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلَ النَّاسُ الْفِطْرَ؛ لأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ)).[6]
وتعليقًا على هذا الحديث ساق الوالد[7] ـ رحمه الله ـ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:
[وهذا نص في أن ظهور الدين الحاصل بتعجيل الفطر لأجل مخالفة اليهود والنصارى، وإذا كان مخالفتهم سببًا لظهور الدين، فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله، فتكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة]. ا.هـ
النّقطة الثّالثة:
الإفطار على (رطب)؛ فـ (تمر)؛ فـ (ماء):
في الواقع أنّ البعض يكون على مائدته ـ على سبيل المثال ـ: (تمر وماء) إضافة إلى أنواع من العصائر؛ لكنّه يفطر على العصير فورًا وشوقًا؛ وهنا أصاب إطفاء عطشه، لكن أتراه ارتوى من تطبيق السّنّة؟
لنتأمّل ما قاله أنس رضي الله عنه:
((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَعَلَى تَمَرَاتٍ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ)).[8]
ففي الحديث نقطتان مهمّتان:
1ـ نوع الأطعمة الّتي وردت في النّص.
2ـ وهل تلك الأطعمة على التّرتيب؟
ولهذا سأختصر ما جاء في شرح ذلك الحديث؛ ممّا ورد في: "تحفة الأحوذي":
[(قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ): أَيْ الْمَغْرِبَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى: كَمَالِ الْمُبَالَغَةِ فِي اِسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْفِطْرِ.
(حَسَا حَسَوَاتٍ): الْحُسْوَةُ ـ بِالضَّمِّ ـ: الْجَرْعَةُ مِنْ الشَّرَابِ؛ بِقَدْرِ مَا يُحْسَى مَرَّةً وَاحِدَةً. وَبِالْفَتْحِ: الْمَرَّةُ.
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى (اِسْتِحْبَابِ) الإفْطَارِ بِـ:
(الرُّطَبِ)؛ فَإِنْ عُدِمَ فَبِـ: (التَّمْرِ)؛ فَإِنْ عُدِمَ فَبِـ: (الْمَاءِ).
قَالَ الْقَارِي فِي "الْمِرْقَاةِ":
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: السُّنَّةُ بِمَكَّةَ تَقْدِيمُ مَاءِ زَمْزَمَ عَلَى التَّمْرِ، أَوْ خَلْطُهُ بِهِ؛ فَمَرْدُودٌ بِأَنَّهُ خِلاَفُ الاِتِّبَاعِ، وَبِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ عَامَ الْفَتْحِ أَيَّامًا كَثِيرَةً وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ خَالَفَ عَادَتَهُ الَّتِي هِيَ: (تَقْدِيمُ التَّمْرِ) عَلَى (الْمَاءِ)؛ وَلَوْ كَانَ لَنُقِلَ. اِنْتَهَى.] . ا.هـ
وقد قال الوالد ـ رحمه الله تعالى ـ:
[والغرض من ذكري للحديث ـ مع الإيجاز في التّخريج ـ إنما هو التّذكير بهذه (السّنّة) الّتي أهملها أكثر الصّائمين، وبخاصّة في الدّعوات العامّة الّتي يُهيّؤ فيها ما لذّ وطاب من الطّعام والشّراب، أمّا الرّطب أو التّمر ـ على الأقلّ ـ فليس له ذكر! و أنْكَرُ من ذلك: إهمالهم الإفطار على حسوات من ماء! فطوبى لمن كان من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [سورة الزّمر: 18]. ا.هـ.[9]
ومن دقائق هذا (الاتّباع)؛ أنّه لو لم يجد الصّائم رطبًا ولا تمرًا، لكن لديه (حلوى) فهل يقدّمه على الماء قياسًا على: الرّطب والتّمر؟
جاء في شرح العلاّمة ابن عثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ لكتاب الصّوم من: "بلوغ المرام":
"ولو وجد حلوى وماء؛ فالماء أفضل؛ لأنه منصوص عليه". ا.هـ
والمتأمّل للحديث ـ أعلاه ـ؛ يرى فضل الله على المسلم، وكيف أنّه إن لم يتوفّر لديه الرّطب أو التّمر لسبب من الأسباب ـ كما في بعض البلاد ـ؛ فبمجرّد فطره على الماء ـ المتوفّر في كل بيت على الأغلب ـ؛ فلا زال مصيبًا للسّنّة! فالحمد لله ربّ العالمين.
توجيه:
1ـ رواية: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يفطر على ثلاث تمرات، أو شيء لم تصبه النار). ضعيفة. انظر: "ضعيف التّرغيب والتّرهيب"، رقم الحديث: (652).
2ـ ورواية: (كان يستحب إذا أفطر أن يفطر على (لبن)؛ فإن لم يجد فتمر؛ فإن لم يجد حسا حسوات من ماء). ضعيفة. انظر: "سلسلة الأحاديث الضّعيفة والموضوعة"، رقم الحديث: (6383).
3ـ ورواية: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر؛ فإنه (بركة)؛ فإن لم يجد تمرًا فالماء فإنه (طهور))). ضعيفة. انظر: "ضعيف التّرغيب والتّرهيب؛ رقم الحديث: (651).
النّقطة الرّابعة:
متابعة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيما يقول عند الإفطار:
قال ابن عمر رضي الله عنهما:
((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَفْطَرَ قَالَ: ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ)). [10]
توجيه:
أمّا الصّيغة الواردة عند الإفطار: (اللهمّ لك صمت، وعلى رزقك أفطرت)؛ فهي ضعيفة.
انظر: "سنن أبي داود"، رقم الحديث: (2358).
النّقطة الخامسة:
متابعة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في (التّبكير) في صلاة المغرب.
فعن أبي أيّوب رضي الله عنه؛ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
((صَلُّوا صَلاةَ المغْرِبِ مَعَ سُقُوطِ الشَّمْسِ؛ بَادِرُوا بها طُلُوعَ النَّجْمِ)).[11]
وعنه رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((لا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيرٍ أَوْ عَلَى الفِطْرَةِ مَا لمْ يُؤَخِّرُوا المغْرِبَ إِلَى أَنْ تَشْتَبِكَ النُّجُومُ)).[12]
وهنا قد يقول قائل:
كيف نعجل بالفطر، ونبكّر بالصّلاة في الوقت نفسه؟
يجيب الوالد ـ رحمه الله ـ عن نحو هذا؛ بقوله:
"نعم؛ جاء الحضّ على تعجيل الفطر ـ أيضًا ـ في أحاديث كثيرة؛ منها قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ)).
فيجب العمل بالحديثين بصورة لا يلزم منها (تعطيل) أحدهما من أجل الآخر! وذلك بالمبادرة إلى الإفطار على (لقيمات) يسكن بها جوعه، ثم يقوم إلى الصلاة ، ثم إن شاء عاد إلى الطّعام حتى يقضي حاجته منه". ا.هـ [13]
وأختم ببيتين للعلاّمة الحكمي ـ رحمه الله ـ من منظومته:
"السّبل السّويّة لفقه السّنن المرضيّة":
وبالغروبِ الفطرُ حلَّ فاعلمِ ...... ولا تؤخرْ لظهورِ الأنجمِ!
وسُنّ في الإفطارِ أن يُعجلاَ ...... وأخِّر السحورَ نصًّا انجلا
هذا والله تعالى أعلم.
وصلّى الله على محمّد وعلى آله وسلّم.
والحمد لله ربّ العالمين.
5/ رمضان/ 1431هـ
[1] ـ (النّشز): المرتفع من الأرض.
[2] ـ "سلسلة الأحاديث الصّحيحة"؛ رقم الحديث: (2081).
[3] ـ "سلسلة الأحاديث الصّحيحة"؛ رقم الحديث: (1773).
[4] ـ "متّفق عليه".
[5] ـ انظر في التّعليق على الحديث رقم: (2081)، من: "سلسلة الأحاديث الصّحيحة".
[6] ـ رواه أبو داود وابن ماجه. انظر "مشكاة المصابيح"، رقم الحديث: (1995).
[7] ـ في كتابه: "جلباب المرأة المسلمة"؛ ص: 176. الطّبعة الثّانية 1413هـ/ المكتبة الإسلاميّة.
[8] ـ رواه أبو داود والتّرمذي وقال: حديث حسن؛ انظر: "صحيح التّرغيب والتّرهيب"؛ رقم الحديث: (1077).
[9] ـ قاله ـ رحمه الله ـ في التّعليق على الحديث رقم: (2840) من "سلسلته الصّحيحة".
[10] ـ رواه أبو داود، وحسّنه الوالد ـ رحمه الله ـ انظر: "سنن أبي داود"، رقم الحديث: (2357).
[11] ـ "سلسلة الأحاديث الصّحيحة"، رقم الحديث: (1915).
[12] ـ "صحيح سنن أبي داود". رقم الحديث (444).
[13] ـ انظر التّعليق على الحديث: (631)، من "سلسلة الأحاديث الضّعيفة".